لمّا انتهيت من قراءة كتاب "في الرّواية ومسائل أخرى"، للروائيّ الفرنسيّ الشّهير "إميل زولا"، لبثت في مكاني نحو ساعة مبهورًا بكلّ كلمة حواها هذا الكتاب؛ ولكن على الأخصّ، بعبقريّة فذّة، هائلة، كنت مفتونًا بها من قبل، ولكنّي وبعد أن أنهيت قراءة الكتاب، جعلتها المعيار الأبديّ للكتابة؛ لكيف تكتب، وكيف تشعر حيال ما تكتب، وكيف تتصرّف بما تكتب.. تلك عبقريّة الخالد العظيم غوستاف فلوبير.
كتاب "في الرواية ومسائل أخرى" جعلته المعيار الأبديّ للكتابة؛ لكيف تكتب، وكيف تشعر حيال ما تكتب، وكيف تتصرّف بما تكتب
شهور من القراءة والسّهر والتدقيق والتمحيص في مئات المجلّدات من أجل عدّة صفحات فقط، وأحيانًا من أجل مفردة واحدة. هذا وصف سمِعَتْ به قلّةٌ عن فلوبير، لكنّه ليس "للنشر" في أيّ حال من الأحوال. قلّة من تستطيع كتابة وصف كهذا لكاتب ثمّ تتجرّأ إلى النظر إلى مؤلفاتها التي ترصف رفوف مكتباتهم الصغيرة، وأن يقولوا لأنفسهم: "ربّما لم نجلس شهورًا، ولكن، جلسنا بضعة أيّام". إلّا أنّ البقيّة، فما أن تسمع جملة كهذه، حتى تُهرع إلى السُّخرية من هذا التّبجيل المُبالغ به للجهد الواجب أن يكون قبل الانتهاء من العمل؛ حتّى أنّ البعض "يبغض" مفردة العمل لمّا تتعلّق بالكتابة، وكأنّها نوع من شتيمة.
اقرأ/ي أيضًا: "ستة أيام" نبوءة بركات: الهزيمة وما قبلها
في وصف رواية "مدام بوفاري"، لغوستاف فلوبير، يكتب إميل زولا: "شكَّلت رواية مدام بوفاري لدى ظهورها علامة على تطوّر أدبي كامل.. لقد اكتملت صياغة قانون الفنّ الروائيّ الجديد. فرواية مدام بوفاري تتمتّع بالدقّة والكمال اللّذين جعلا منها أنموذجًا للرّواية، والمثال النهائيّ لهذا النّوع. تلك رواية تطلّبت من كاتبها سبع سنوات من العمل المتواصل، قراءة المئات من المجلّدات عن تاريخ فترة بعينها، كتابة مسودة للرواية ليست إلّا مسودة ستتطلّب سنوات أخرى من العمل عليها. وتلك رواية لاحقها العزيز فلوبير حتى في المطبعات، مدقِّقًا في أماكن الفواصل والنّقاط إن كانت بأماكنها الصّحيحة أم لا؛ تلك رواية لم تُترك لحظة واحدة، وكان من الممكن أن تبقى مسودة فوق مكتب فلوبير يواصل العمل عليها طوال عمره؛ فقد آمن أنّ أيّ إنسان لا ينطوي سوى على كتاب واحد".
وقال: "احتاجت روايته الأخيرة (تجربة القدّيس أنطونيوس) عشرين عامًا من العمل المتواصل وقراءة معمّقة في آلاف المجلّدات حول الأديان والمعتقدات والأساطير وتعلُّم اللاتينيّة والإغريقيّة؛ فقط كي يستطيع أن يرسم ملامح فترة من الزّمان، فقط ليستطيع كتابة كابوس لشخصيّة يأخذُها الشّيطان في رحلة عبر العصور بالكاد هي بضع صفحات. أمّا روايته (التّربية العاطفية)، فهي كذلك، تطلّبت منه إعادة قراءة تاريخ مرحلة زمانيّة بأكملها من تاريخ فرنسا؛ صحف، مجلّدات قانونيّة، محاضر قضائيّة وشرطيّة، مقابلات مع أناس عايشوا تلك المرحلة، وثائق تاريخيّة، مجلّدات في التّاريخ والسياسة والاقتصاد وحتى في العمران وأنماطه حتّى انتهت إلى التّربية العاطفيّة، الرّواية الخالدة جنبًا إلى جنب مع مدام بوفاري .. الصّفحة من رواية من رواياته أشبه ما تكون بكتلة مرمر، منقوشة إلى الأبد، بنقاء مطلق، وتقف ثابتة أمام العصور. هذا الحلُم، هذا العذاب، هذه الحاجة هي التي تجعله يعترض على كلّ فاصلة، وطوال شهورٍ لا يكفُّ عن الدوران حول مفردة غير صالحة، حتّى يعثر، بسعادة المنتصر، على الكلمة المناسبة لتحلّ مكانها".
لو أمكنني، لما توقّفت أبدًا عن الكتابة عن فلوبير، وعن الرّواية بالنّسبة له ولصديقه الروائيّ إميل زولا؛ لكنّها كانت مجرّد لمحة سريعة عن عالم ذلك العبقريّ، نظرة خاطفة إلى روائيّ لم يكن ليدفع أبدًا بكتابه إلى النشر قبل التأكد التّام من "كماله".
وكذلك لمّا انتهيت من قراءة الكتاب، لم يكن بوسعي إلّا النّظر من حولي، أي إلى الزّمان الذي أعيش فيه، وأراجع تجارب كلّ من عرفتهم في السنوات الأخيرة. شابّ لم يبلغ الرابعة والعشرين، يدفع بكتاب أنهاه في بضعة شهور إلى الطّباعة ليخرج الكتابة بطباعة رديئة ورقًا وحبرًا، وبكلمات ركيكة، بنحو بالغ السوء، وبإخراج بالغ القبح وطافح بالأخطاء. يشعر الشابّ بخيبة الأمل لفشله الذي يصل إلى حد لا أذكر معه حتى اسم الرّواية الآن. وآخر يدفع برواية تبلغ الألف صفحة إلى النشر، كذلك بإخراج وطباعة رديئة وقبيحة، وباستخدام صور في الغلاف - كان يستولي الغضب على فلوبير عندما يقترح أحد عليه رسومًا توافق كتبه، ويقول: "وحده من لا يحترم نثره يسمح بوضع صور توسّخ النصّ وتدمره" - وكذلك أمر هذه الصّور التي تجعل من أغلفة الكتب أشبه بـ"جاليري" للصور الأكثر قباحة وتفاهة في العالم.
على الطّرف الآخر، هناك بالطّبع، الكُتّاب الذين استطاعوا بفضل من التكنولوجيا الحديثة وأدواتها الوصول إلى أعداد هائلة من القراء، ولا يمكن وصف أدبهم إلّا بأنّه يُشبه أدب كُتّاب "صالونات باريس" الرّخيصة؛ إذ كان هناك من يشبِهُهم بالطّبع حتّى في زمن فلوبير وزولا، والوصف منسوب لزولا.
أولئك الذين حقّقوا النّجاح الذي عاد عليهم بالمال وبالشهرة في آن، يكملون طريقهم ويكتفون بالطّبع بإسالة حبرٍ إلكترونيّ رخيص لا يكلّفهم شيئًا
أولئك الذين حقّقوا النّجاح الذي عاد عليهم بالمال وبالشهرة في آن، يكملون طريقهم ويكتفون بالطّبع بإسالة حبرٍ إلكترونيّ رخيص لا يكلّفهم شيئًا. أما أولئك الذين دفعوا بكتبهم بإخراج سيء وطباعة رديئة ونحو متفكك وجمل مبعثرة وقصّة رخوة تخلو من كلّ إمكانيّة روائيّة، فما يلبثوا أن يشاهدوا فشلهم أمامهم حتّى يتراجعوا تمامًا عن أيّ طموح أدبيّ ممكن. ولكنّ بعضهم، يعتاد هذا النّمط من الكتابة المتوسّطة إن لم تكن الرّديئة تمامًا، فيواصل عمله في إشاعة الرّداءة والقبح، بكلّ ما ملَكَ من رضى عن النّفس وقُبولٍ بعاديّته المثيرة للشفقة؛ بالطّبع هو لن يرى من هذا شيئًا فالعالم أكثر عدلاً في هذه الأيّام بواسطة التكنولوجيا التي تتيح لكلّ إنسان الحقّ في الشُّهرة المتوسِّطة والإعجاب الذي يُرضي غرور النّفس البشريّة.
اقرأ/ي أيضًا: 7 روايات أساسية في الرواية الفلسطينية
هنالك فلوبير إذن، من ناحية، ومن شابهه، وهناك من ناحية أخرى، كُتّاب الصالونات الباريسيّة الرّخيصة، والكُتّاب المتوسِّطون الذين يخلوا عملهم من أيّ لمسة شخصيّة ويجاهر بعضهم أنّه استطاع كتابة رواية في بضعة أسابيع. وفيما يتعلّق بالثقافة الفلسطينيّة، فهي على ما يبدو تزخر بكلّ أنواع الأدَبِ، فيما عدا الأدب الذي يُشبهُ أدب "فلوبير"، الذي يُكلِّفُ صاحبه جهدًا جبّارًا، حتّى زولا نفسه حذّر من احتذائه مثالاً لأنّه يقود إمّا إلى الجنون أو الموت. لكنّ هذا ما يجعلُ من فلوبير عبقريًا وإنسانًا رائعًا في نظر زولا؛ لقد كان يُكِنُّ احترامًا عظيمًا للأدب، ولأدبه هو تحديدًا، جعلَهُ يتحمّل أيّ ضجر ناتج عن مشقّة قراءة مئات المجلّدات التي لا يخرجُ منه سوى بصفحة واحدة وربّما بجملة واحدة فقط؛ ولكنّها دقيقة وكاملة.
"تهافت" أدبيّ، سقوط متواصل، هذا ما يؤشّر إليه مشهد الثقافة الفلسطينيّة؛ ليس فقط أدبيًا، بل في مجمل الحقول الثقافيّة. كأنّ هناك اقتناعًا أنّ الثقافة، بمجمل حقولها أدبًا كان أم موسيقى، ليست إلَّا وسيلة لغاية أرفع، وهنا تظهر فكرة "الوطنيّة" لتتداخل مع مجموعة أخرى من المقولات الجاهزة حول الأدب، كـ"الأدب الملتزم"، لتخلق استخفافًا مرعبًا بالأدب وبالثقافة بالمجمل. ولتدفع بكمّ من الأعمال القبيحة والرديئة، إلى الظهور علنًا من ناحية، وتهافت نحو الرّبح السّريع والسوقيّة في إنتاج الأدب ونشره، لتخلق أوركسترا من القبح الثقافيّ إن لم يكن "حفلة تفاهة" لا تحتمل.
حاولت من قبل الكتابة في نقد مشهد الثقافة هذا، وكنت أتراجع في كلّ مرّة لأسباب خاصّة تتعلّق بسؤال: من أنا حتّى أنقد مشهدًا ثقافيًا؟ أمّا عندما انتهيت من قراءة هذا الكتاب، فكان فلوبير حاضرًا؛ بضع أسطر عنه "يجب" أن تستطيع إيقاظ شيء في كاتب ما، أو تمنعه عن إرسال مخطوطة روايته في اللحظة المناسبة، وبضع أسطر عنه تكفي لتعرية مشهد ثقافيّ بأكمله.
اقرأ/ي أيضًا:
في مديح اليأس: إنساني مفرط في إنسانيته