في الجسد؛ أن تتألّم ويظلُّ الألم متّصلاً بالذاكرة، وفي تواصل الذّاكرة يتواصل حضور الألم. تستعيد الذاكرة بعضًا من نفسها بين الحين والآخر؛ كإسم مشابه، صورة على جدار، أغنية قديمة، قصيدة عابرة أو حتّى مزاج خريفيّ في يوم صيفيّ. تحضر الذّاكرة عندها، على شكل ألم في أسفَل المعدة، يسمّي البعض هذا الألم، بألَم الفراشات؛ ألم الحبّ أحيانًا، وألم الفراق أحيانًا أخرى، ألم الوداع، الشّعور أنّ شيئًا جللاً قد يحدث بين لحظةٍ وأخرى وأحيانًا هو الحدس باقتِراب الخطَرِ إن كنّا نريد هذا الخطر أو نودُّ لو أنّه لا يقع أبدًا.
هو ألمٌ جسديّ إذًا، ألمٌ على هيئة ذكرى أو ذكرى على هيئة ألم. هكذا لا يخون الجسد مرّة أخرى، هكذا يبقى الجسد وفيًّا للذكرى دائمًا وأبَدًا، فإنّ خانت الذاكرة نفسها ذكّرها الجسد بألمِ الفراشات/ المعدة، بالذكرى مرّة أخرى.
ولمّا يختفي ألم الفراشات بعد سنوات، تظلّ هناك ابتسامة بلهاء، ترتسم على الوجه لمّا تفاجئنا الذّكرى بحضور غير متوقّع. يزول الألم، تبقى ابتسامة بلهاء، وغصّة في القلب؛ هي غصّة عمر لا تزول أبدًا حتّى لمّا تكون خالية من الألم، تظلُّ غصّة في القلب وأخرى في الحلق؛ والغصّة هي ما امتَنَع فِي الحلق من طعامٍ أو شراب، وهي ما امتَنَعَ من القول ولم نستطع قوله، وهي الحزن والهمُّ والغمُّ الشديد المتواصل.. كلَّما حضرت الذِّكرى.
هو الجسد إذًا، موطن الذّاكرة الذي لا يخون أبدًا. وتبقى كيمياؤه حاضرة دومًا، كأنّما هي الحمض النووي للذاكرة، يتشكّل على هيئات مختلفة، بطبائع كيميائية متفاوتة الشدّة والظُّهور. والغصّة في الذّاكرة؛ هي ما امتَنَع عن النِّسيان.
تحت أسماء كثير منّا يرقد شهيد، اسم شهيد لم نفكّر فيه بما هو كذلك
عن فكرة النبيّ في الفكر العربي المعاصر، يكتب المفكّر التونسيّ فتحي المسكيني: "تحت أسماء كثير منّا يرقد نبيّ: اسم نبيّ لم نفكّر فيه بما هو كذلك. كم من محمّد، ومن يوسف، ومن إبراهيم.. في كلّ عائلة. ربّما لا ننتبه، إلّا بأخرة، إلى أنّ معنى النبيّ لم يمت تحت أسمائنا، وأنّه أب، وأخ، أو جدّ، لنا، على نحو ميتافيزيقيّ فَظيع".
اقرأ/ي أيضًا: شمس تُخطئ اختيار إخوتها
الإسم موطن آخر للذّاكرة لا يخون. وعلى نحو ما كتب المسكيني، يمكن القول أنّ تحت أسماء كثير منّا يرقد شهيد، اسم شهيد لم نفكّر فيه بما هو كذلك. كم من أسماءِ شُهداء.. في كلّ عائلة، من محمّد، ومن مهنّد، ومن يحيى.. في كلّ عائلة. وربّما لا ننتبه إلى أنّ معنى الشهيد حيٌّ تحت أسمائنا، وأنّه أبٌ وأخٌ وجدٌ لنا، على نحوٍ ميتافيزيقيّ هائل. تلك ممارسة ميتافيزيقيّة تمارس بوعيٍ وبلا وعيّ لما يستشهدُ محمّد ويُسمّى ابنهُ من بعده محمّدًا فورَ ولادته التي تأخّرت يومًا وربّما يومين بعد استشهاده؛ وقد انتقلَتْ إلَيه وهو لا يزال في رحم أمّه كُلُّ معانِي فُقدانهِ عبر الصُّراخ والعويل وعبر الألم؛ صار الولَدُ جسَدَ أبيه، وصار الولَدُ موطنَ ذاكرةٍ حيٍّ لأبيه؛ متحفًا لذاكرة عائلة، حارة، وربّما مدينة بأكملها.
ولمّا يستشهدُ مهنّد ينتبهُ كلُّ مهنّدٍ فِينا إلى اسمِهِ، ليُحمِّلهُ معنى آخر وآخر؛ أطوارُ ذاكرة تتوالدُ من بعضها عبر الأسماء وألَمِ الفراشاتِ الذي يُصيبُ المُهنَّد لمّا ينتبهُ إلى أنّ اسمه استُشهِدَ فِي مكانٍ ما، فيصير ألمًا ويصيرُ متحفًا لذاكرة آخر.. عبر الآخر الشهيد تولد ذاكرة أخرى للأنا المشابه للآخر الشّهيد، فنشعر أنّنا نحيا حياة آخرى، نحيا حياة بعضِنا البعض حتّى يقع فعل شهيد آخر.
نحن في علاقة دائمة مع الشّهيد؛ إن كنا نشبهه أو نختلف عنه. في علاقة "لامرئيّة" مع تراث الشّهداء. علاقة مع مرور الوقت، تسقِطُ البعد الدينيّ في شخصيّة الشهيد، وكلُّ الأبعادِ التي إن حضَرَتْ تُفسِدُ المعنى الروحيّ الذي يشبه تجارب المعنى التي عشناها في الكتابة والحياة. تلك الهالة الروحيّة، هالة المعنى الروحيّ التي تحيطه ككائنٍ أعلى، هي ما يبقى، وهي ما يُحرِّكُ ذاكرة الفراشات التي تستيقظ بين الحين والآخر في أسفَلِ المعدة وما يُنهِضُ الغصَّة من نومها الثّقيل في القلب.
هالة المعنى الروحيّ هذه هي ما يجعل الشّهيد – عرفناه عن قرب أم لم نعرفه – يحرِّك شيئًا يسكن فينا بين الحين والآخر ويوقظه. شيء يصلنا بعالم من المعنى أوسع من المعنى الماديّ المتاح لنا اختباره في حياة الواقع هذه؛ شيء يتفوّق حتى على معنى فعل الشّهيد نفسه، ويتيح لنا التواصل مع أنفسنا الدّاخليّة والنّظر من خلالها إلى ذاكرة الزّمن الذي عشناه نظرة تخلو من الحاجة إلى التراتب المنطقيّ والسببيّة، نظرة فوضويّة تشبه كتابتي هذه، ولكنّ فوضويّتها هذه ما يشبع حاجتنا للمعنى حقًا.
مدائح ملقاة هنا وهناك على قارعة طرق إلكترونيّة؛ مفزعٌ كم تُسرِّعُ عمليّة النسيان وتخلطُ الأشياء ببعضها البعض
يُمَيَّع هذا كُلُّه عبر "الفوريّة"، والحاجة الملحّة لكتابة مديح فوريّ للموتى، مدائح ملقاة هنا وهناك على قارعة طرق إلكترونيّة؛ مفزعٌ كم تُسرِّعُ عمليّة النسيان وتخلطُ الأشياء ببعضها البعض. أتذكّر المرّة الأخيرة التي اعترَضَني فيها خبر موت شهيد، كنت في الباص؛ جاء الخبر وكأنّه يأتي من "بلد الحكايات" البعيد؛ وشعرت أنّي صمتُّ على الرّغم من أنّي كنت صامتًا أصلاً، كنت كمن يُحاولُ ابتِلاع الخبَرِ لكنّ غصّة في القلب تأبى ابتِلاعه وتحجبُ ردّة الفعل الفوريّة السّريعة. تلك الغصّة هي ما يبقى لِي، تلك الغصّة هي ما يجعلُ من الذّاكرة تأبى النِّسيان وتمكِّنُ الجسد من الاحتفاظ بالمعنى. حتى إذا كان الليل، رحت أقلِّبُ الأسماء في معدتي، اسم هنا واسم هناك، وكلّ اسم يستحضر غصّة ما، تلك حارقة، وتلك باردة كأنّها تنشر البرودة على الكون. وفي آخر مرّة رأيت فيها تلك الابتسامة البلهاء ترتسم فوق وجه أحدهم، كنت في سيّارة مع أستاذ لي، لما التفت فجأة نحو نصب تذكاريّ بالكاد يُلاحظ في شارعٍ ما، ورأيت تلك الابتسامة فوق وجهه وهو يسألني أتعرفُ لمن هذا النّصب؟ وراح يروي لي قصّة شهيد يزيد عمرها على العشرين عامًا، كأنّها حدثت البارحة. وكنت واثقًا أن لو سألته إن كان يشعر بألم طفيف أسفل معدته لأجابني بأجل. تلك ذاكرة إنسان على هيئة جسد؛ غريبة جدًا عن زمن الذاكرة الإلكترونيّة هذا، حيث مدائح الموت، منشورات الذّاكرة الإلكترونيّة، تطغى على الجسد وذاكرته الكيميائيّة وتُحيِّدهُ من وراء الشاشات وتفسح المجال للنّسيان.
اقرأ/ي أيضًا:
معركة الواد الأحمر.. شهداء نُسيت أسماؤهم