03-أكتوبر-2024
لوحة: سهاد الخطيب

لوحة: سهاد الخطيب

في غزة، قامت القيامة دون إعلان للسّاعة، طويت الأرض بمن عليها، وأصبحت سماؤها وردة كالدهان، نسفت البيوت دون نفخٍ بالبوق، إنها صيحة من العذاب، لا مفرّ ولا هرب، وحش الموت يفغر فاههُ، يبتلعُ في اللحظة أكوامًا من البشر، لا متسع للخوف أو الحزن أو الانهيار.

هذه جروحٌ لا تندمل، شروخ مفتوحة في الذاكرة، شقوق العمر، ندوب بمساحة الوطن، فما الذي يرتقها بعد اتساعها؟

هنا موطن التناقضات، لا شيء يشبه أصله، يسير فيه الأموات فوق الأرض، وينعم الأحياء في باطن الأرض، فهم وحدهم الناجون من صيحة الموت الكبرى، التي لم يخفتْ صوتها يومًا واحدًا منذ عام.

عامٌ ثقيل، كألفِ سنةٍ مما يعدون، التهم أطرافَ الصغار والكبار، نزعت فيه أعينهم، واحترقت أجسادهم، وشوّهت أحلامهم، ودفنت أنصافهم، وصار الموتُ أكثر الأماني التي لا تُنال بطلب، فهي توزّع بالمجان، ودون أن يشبع المحتل.

أسماعٌ منقوصة، عيونٌ ملتهبة، ظهورٌ محدبة، رئاتٌ متآكلة، أجسادٌ مهترئة، أقدام متشققة، قلوبٌ نازفة، أرواحٌ مشدوهة، وذكرياتٌ متساقطة على أرصفة الشوارع والبيوت، لم تجد من يلتقطها ليُخبأها كشاهدٍ على الرواية، من يرويها، والراوي قد قُتل؟

هنا يمعن الجاني في موتك بالتقسيط، يكره الرحمة، تتأرجح بين ألغام الموت كل لحظة وهو شاهد سعيد، يرخي شفة الثعبان، ويمنح محبوبته اللعينة، اختيار طريقة العذاب بك، ثم يبتهجون في طغيانهم وأنتَ وحدك تواجه المصير.

مصيرٌ أنت فيه مبتور، لا ماضٍ يسندك، ولا حاضر تسير فيه، ولا مستقبل تتأمل به، قُذفتَ في الصحراء، عاريًا من كل شيء، صفر اليدين، مقيد القدمين، ومعصوب العينين، ثم قيل، عليكَ أن تعيش. هم يقصدون أن تعيش موتك منفردًا مذبوحًا لا ناصرًا يمد إليك يده، ولا خليل.

لقد حرقوا الخليل من قبل، أو يتركوك؟ ماهرون هم في لعبة الموت، يجيدون اختيار الطرق التي لم يسبق لها بشر، وكأنهم خلقٌ من نار، لا يُطفئ حقدهم شلال الموت المهدور، إنهم يرفضونك بكُلِّك، يصادرون حقك في الوجود، لم يقبلوا كل الرسل، فهل يقبلونك؟

هنا، أنت رهن المؤامرات، والمفاوضات، والمقترحات، أنتَ هامش في النقاش، دون قيمةٍ تذكر، تكاد تذكر حين تكون زيادة بعد المئة في محرقة هنا أو هناك، رقمٌ في معدادٍ لا يغيّر في وجه الحرب شيء، لكنّه يغيّر في حياة عائلتك الكثير.

هنا، تُرى كحقل لتجارب الصواريخ، أو لقطة تقدم في عرضٍ لمستثمرٍ كي يثبت دقة الصاروخ أو ذكاء القنبلة، يقبضُ المال على موتك الكثيرون، هناك في آخر الكوكب أو في جوارك حين يقرر العميل.

هنا أنت ابن اللحظة التي لا تعرفُ شبيهةً لها، دون بداية، وبلا نهاية، لقد راودوك عن أملك في النجاة، حتى نفدت أمانيك، يصادرون كل محاولاتك، يريدون قتلك بشتى الطرق، يغرسون أظفارهم في قلبك، وينتزعونه وأنتَ حي، يريدونك أن ترى موتك بعينيك.

هم غاية في الغباء، هل يبصر أحدنا قاتله ثم يتركه للزمن، لقد منحونا زمنًا صعبًا لا يشبه إلّا زمن الانتقام، كيف لمن ضيّق على الغزيّ وطنه أن تتسع له الحياة، ولمن عبث في روح أبنائه ألا يصله الثأر، هل ينسى أحدنا قاتل أمه وأبيه؟

كيف لجدٍ عاش نكبتين وهُجر اثنتينِ ثم يغفر؟ كيف لأبٍ باع عمره ليُظلل بيته ويحمي أبناءه، ثم لا بيته بقي ولا أبناءه عاشوا، ثم يُصافح؟!

كيف لأمٍ شاهدت عظام طفلها تهرسها الدبابات، ثم تنسى؟

كيف لطفلٍ لم يمنحه الزمن تحسس وجه أبيه، ثم يعفو؟

كيف لشابٍ دفنوه حيًا ثم تركوه يعافر نجاته، أن يرأف؟

كيف لعروسٍ مُزق حلم عمرها قبل أن يُزهر ثم تُسامح؟

هذه جروحٌ لا تندمل، شروخ مفتوحة في الذاكرة، شقوق العمر، ندوب بمساحة الوطن، فما الذي يرتقها بعد اتساعها؟

هنا، يجيد الشعب المراكمة، يثبتُ طويلًا، يحفظُ جيّدًا وجوه العابرين فكيف بمن طال أذاه، يُسجلهم مع هدم كل بيتِ، مع اجتثاثِ كل شجرة، مع غياب كل أذان، مع تأوهِ كل جريح، مع صرخة كل مكلوم، ومع قطرة دم كل شهيد، يصنع منها صخرةً يكسر عليها كل محاولات الفناء والتهجير.

هنا يجتمع الثأر بأكمله ممتدًا من أدنى الخارطة حتى أصبع الجليل، لا تَحيدُ وجهته مسترشدًا بنور الدماء على قِبلة الطريق، حتى تبزغ شمس الحرية على القبة الصفراء، وزادنا في الوصول أن "لا تصالح ولا تهادن".