ما إن تصل إلى "المبنى الأصفر" المُغبر الذي يعرفه عجائز خانيونس فقط؛ حتى يُخال إليك سماع جَلبة مسافرين كانوا آخر مرةٍ هنا منذ 49 سنة بانتظار قطار يُقلُّهم إلى القاهرة. واليوم لا يُخيّم على المكان سوى السكون، وحديث بعض المارة الذين يجهلون ما كان هذا البناء المهجور يومًا ما.
لا تزال محطته في خانيونس، ويتذكر من عايشوا تلك الأيام، كيف كانوا يركضون خلف القطار حتى تُدمى أرجلهم أو يتوارى عن أنظارهم
ففي غرب المحافظة الأكبر جنوب قطاع غزة؛ ما زالت محطة مُتهالكة الجدران والأبواب لانتظار المسافرين عبر القطار، تقف كآخر رمزِ لمعالم السكة الحديدية التي كانت تعج بمئات المسافرين.
من بقي من أولئك المُسنين الذين لم يُحالفهم الحظ يومًا بركوب القطار؛ يذكرون جيدًا أيام طفولتهم واستيقاظهم إذا ما سمعوا صافرة القطار البخاري أو فرامل عجلاته الفولاذية ليركضوا خلفه مئات الأمتار حتى تُدمى أرجلهم أو يتوارى عن أنظارهم فرحًا بهذا العملاق المتنقل.
بساطة تلك الأيام كانت تعكس سماتها على من استقلوا ذلك القطار الذي توقفت آخر عجلاته عن الدوران في صباح الخامس من حزيران/ يونيو 1967، يوم اندلعت حرب النكسة. فابتسامات عامل تدقيق التذاكر وسائقيْ القطار المصريين، كانوا أول "رائحة مصر" وأهلها بالنسبة لأولئك المسافرين البسطاء الذين كانوا يعتقدون أن أول البوابات نحو العالم يبدأ من مصر.
اقرأ/ي أيضًا: "جزيرة فاضل".. هنا يرقد حلم العودة إلى فلسطين
تلك الأُلفة والبساطة تُناقض ما قد يحصل اليوم؛ فإذا ما فكّر أحدهم ممن سافروا يومًا على متن إحدى "فرقونات" -أي عربات القطار- بالسفر إلى مصر، فإن رحلته ستكون "قطعة من العذاب"، لما يجده من شبه استحالة للخروج عبر معبر رفح بسبب تدابير السفر الصارمة ومعالم وجوه متجهِمة من السلطات هناك.
فلا عجب ممن يمكن أن تلتقيهم في شوارع غزة من الذين يتذكرون عهد القطار الحجازي الذي أنشأه العثمانيون قبل أكثر من قرن، وطُوِر في عهد الانتداب البريطاني، يرون أن تلك الفترة كانت "العصر الذهبي لغزة".
اقرأ/ي أيضًا: في أي حلم إسرائيلي ورد السيسي؟!
أمّا اليوم، فالعلاقات بين القاهرة وغزة اتجهت إلى الهاوية حتى عهدٍ قريب، لتتحول غزة إلى قطعة جغرافية مفصولة عن العالم الخارجي، وتظل فكرة إعادة تعمير السكة الحديدية مجرد أضغاث أحلام، رغم أن آخر نقطة لسكة الحديد المصرية تقع في منطقة بئر العبد على بعد 65 كيلومترًا عن غزة.
نحو نصف قرن مرّت سريعةً على ذلك المشهد، ولم يتبقَ من ذكريات القطار وسكَّته سوى قضيب فولاذي لبضعة أمتار بالكاد يظهر من شقوق شارع السكة وسط سوق المدينة، وأخرى في غربه يحمل ختمًا بارزًا من معمل الحديد والصلب في إنجلترا.
مصطفى العبادلة (73 عامًا) والذي يعمل بمحطة وقود على بعد نحو 50 مترًا من ذلك القضيب الفولاذيّ، لا يزال يذكر أهازيجَ لطالما رددها مع عشرات المسافرين على متن "الفرقون". فأنشد قائلاً: "عِشتي يا مصر وعاشت رايتك فوق، شمسك مين ينكرها ونورها أول نور بتشوفه الدنيا، لأجل الحب وللحرية، وكل ما قلبي يدق يقول عِشتي يا مصر"، وهي من أغاني الخمسينيات لوفاء مصطفى وصفاء لطفي وسناء الباروني.
المُسن العبادلة الذي حفر الزمان شقوقه على معالم وجهه، يتمنى عودة ذلك الزمان. "كُنّا نحكي مع البوليس المصري عن تفاصيل حياتنا، كأنّه أخوي". ويعود يسألني إذا قابلني بعد أسابيع عن أحوالي: "إيه الأخبار يا مصطفى بيه؟".
وعلى مقربة من المحطة القديمة المُلغمة بالأقفال الصدئة، التقت "ألترا فلسطين" محمد الشيخ سلامة، الذي رأى أن فترة السكك الحديدية جعلت من غزة يومًا كما دُبيّ الآن. فقد كان المصريون يعشقون كل ما في غزة باعتبارها أشبه بالمنطقة الحرة لالتقائها بتجّار مدن الضفة الغربية ويافا وعكا ودمشق وشمال السودان وغرب العراق.
تلك السكة الحديدية الممتدة في غزة، لم يتبق منها اليوم سوى ما قد يطفو إلى الطريق من بقايا قضبان نادرة، فقد طمس العمران كل ما تبقى من آثار القطار وسكته، فيما أتلفت سكك أخرى وحُولت إلى معامل الحديد في غزة.
وزارة النقل والمواصلات أعلنت قبل عام عن مشروع مخطط شمولي يتضمن مد سككٍ حديدية يربط مدن الضفة ويمر بغزة مع دول الجوار. لكن مشروعًا مماثلاً لن ينال موافقة إسرائيلية على أغلب الظن، باعتباره مشروعًا يمكن أن يمنح قوة اقتصادية -على الأقل- للفلسطينيين، وهو ما لا تتمناه إسرائيل.
"كنت في التاسعة من عمري برفقة والدي على متن الفرقون العائد من الإسكندرية إلى خان يونس لمدة تسع ساعات، أذكر أن جيوبي كانت محشوة بالإكسسوارات النسائية والساعات الثمينة بعيدًا عن أعين نقاط الجمارك التي لم تكن تكترث للأطفال.. كان السفر ممتعًا وسهلاً أما اليوم فلا أسمح لنفسي بالتفكير حتى"، يقول سلامة لـ "ألترا فلسطين"، والذي حمله القطار لمرةٍ واحدة في 1959.
إن إعادة أمجاد القطار الحجازي يجب أن يكون من أكثر مطالب الفلسطينيين أهمية، فكما كانت رؤية العثمانيين عبر مد السكك الحديدية لربط الشعوب وجمع شملهم، كذلك الأمر بالنسبة لغزة التي ستلتقط أنفاسها إذا ما أعيد التحام هذا القضيب الفولاذي اليتيم مع أقرانه نحو القاهرة.
التغير المفاجئ الذي انتهجته القاهرة تجاه غزة قبيل أسابيع فقط، عبر تقديم عدة تسهيلات، يُنبئ بكسر الأقفال الموصدة منذ سنوات بإمكانية طرح إعادة ربط السكتين المفصولتين التي دمرتها الطائرات الإسرائيلية قبل 50 سنة. فهل يُكتب لأحفاد "العبادلة" و"سلامة" يومًا سماع صرير عجلات القطار النافث للدخان وخلف مقوده سائق مصري بشوش الملامح؟
اقرأ/ ي أيضًا:
مصر.. كل شيء هادئ على حدودنا الشرقية