أتوجّه آخر هذا الأسبوع إلى قريتي شمال الضفة الغربية، لأن الناس نواحينا حملوا مفارشهم وسلالمهم وعصيّهم، وتوجهوا إلى أراضيهم، فقد بدأ موسم الزيتون.
موسم الزيتون اليوم، هو موسم الموظفين المشغولين بوظائفهم، والعمال المتورّطين مع مشغّليهم، والسيدات اللواتي لم تعد الأرض ضمن مهامهنّ اليومية
في المناهج المدرسية، و"أدبيات" السوشال ميديا؛ يبدو موسم الزيتون رومانسيًّا حالمًا، تذهب فيه العائلة إلى الأرض، وتشعل النار لتحضّر الإفطار الذي لا يخلو في مخيال مرتادي الفضاءات الافتراضية من "قلاية" بندورة شهية، و"قلاية" جبنة بلدية، وإبريق شاي بالنعنع أو المريمية. وبعد ذلك، تبدأ الأسرة بسعادة "تلقيط" الزيتون وهي تغني الدلعونا وتتبادل أطراف الحديث، إلى أن يحين موعد الغداء، وهو طنجرة المقلوبة، ذات الطعم البديع، لأنها مطبوخة على الحطب. وينتهي يوم العائلة السعيدة بجمع أكياس الزيتون الجميلة، ثم إلى العصّارة، لتعود آخر اليوم وقد خزّنت مؤونتها لعام مقبل من الزيت اللذيذ الحرّاق.
وهذا كله محض هراء.
موسم الزيتون اليوم، هو موسم الموظفين المشغولين بوظائفهم، والعمال المتورّطين مع مشغّليهم، والتجار والصنّاع والطلاب، والسيدات اللواتي لم تعد الأرض ضمن مهامهنّ اليومية.
لا فلاحين في بلادنا اليوم.
إنه موسم يتيم، يحسب له الناس حسابًا، ويتوجّسون كلما اقترب موعده، لا لأنهم يكرهونه، بل لأن فكرة الفلاحة لم تعد صالحة لكثير منا اليوم، أو أننا لم نعد صالحين لها، كما أنه موسم –لمن يعرف- متعب ومرهق.
ولمن يعملون في مهن شاقة، يقرّون دون تردد أن العمل في الزيتون أصعب عمل، وأن الرومانسية المخلوعة عليه، مخادعة، لأنها تنظر إلى الموسم من عل، لا من تحت الزيتون، حيث تضطر يدك لملاحقة حبّة اختبأت خلف ورقة مغبرّة عمتك الشمس عن رؤيتها!
إن التفرّس الصباحي في وجوه الذاهبين إلى أراضيهم هذا الموسم، يكشف عن امتعاض شديد، وعن فعل قسري أجبرهم عليه أبٌ عجوز أو أمّ هي ما تبقى لأسرة تطلب برّها ورضاها.
نردد: "باقون ما بقي الزعتر والزيتون". واللطيف هنا أن الزعتر ابن الجبل، لا يزرعه أحد، إنه يشقُّ الصخر وينبت. وأما الزيتون، فأقل شجر في الكون يحتاج إلى عناية
لست هنا في وارد الحديث عن أسباب انخفاض مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي، من قرابة 40% عام 1969، إلى قرابة 3% حاليًّا. وحصة هذا القطاع 1% من موازنة السلطة الفلسطينية. لكن تركيبة مجتمع القوى العاملة اليوم، تركت المزارعين فئة قليلة، تقاتل وحدها تضييق الاحتلال وقلة دعم السلطة وعوامل الطقس الصعبة، التي ترسل الشمس أيامًا معدودات وقد أشعلت تحتها نارًا إضافية، فحرقت موسمًا كاملًا أمام عيني المزارع الوحيد.
والزيتون ليس موسم المزارعين الذين اتخذوا الزراعة مهنة.
إنه موسم الفلاحين، الذين اتّخذوا الأرض أسلوب حياة.
وسأتحدث عن قريبي أبو علي.
وأبو علي هذا فلاح، يتفقّد أرضه باستمرار، يعيش لها وفيها، وجدول حياته تضعه الأرض، فكل المواعيد هي "بعد الزيتون"، و"جمعة المشمش"، و"أيام التين"، و"نضوج التفاح السكري"، و"حصاد القمح"، وهكذا.
والفلاحون أمثال أبو علي، علاقتهم مع الأرض علاقة عجيبة. إنهم دائرة حكم محلي للأرض والشجر. يعرفون الحدود دون مسّاح، ويقدّرون أحمال الشجر دون تجّار، ويعرفون كم "ظُهرية" تحتاج أرض ما كي يحرثها حمار أو بغل أو فرس. ولكل حيوان مدة لا يخطئونها.
إنهم أيضًا دائرة "طابو" تمشي بين الناس، يعرفون أنساب الأرض وملاّكها، وحصص الإخوة والأخوات، ومناطق النزاع، والطرق الفرعية.
الفلاحون الحقيقيون هم فقط من يستمتعون بالزيتون المتعب والمرهق، لأنهم رافقوا حَبّه واستوطنهم حُبّه، منذ البراعم الأولى، إلى أن وصل إلى فترة نضج فيها بحيث "لا يزيد الزيت في الحبّ ولا ينقص".
إنهم يستمتعون بما هو حصاد عام كامل من الحراثة والتزبيل والتنقيب، وهذه أيام جني التعب.
يقول زجال شعبي: "الراحة متعبة من بعد راحة، لكن طيبة بعد التعب". والفلاحون يرتاحون بعد تعب عامل كامل.
من نُقشت حنّاء المكاتب على أيديهم، وأنِسوا لصوت كيبورداتهم على حساب "الشنانير"؛ فهؤلاء يذهبون متثاقلين إلى أرضهم
أما من نُقشت حنّاء المكاتب على أيديهم، وأنِسوا لصوت كيبورداتهم على حساب "الشنانير"؛ فهؤلاء يذهبون متثاقلين إلى أرضهم، يدعون الله أن ينتهي الموسم على خير، بل أن ينتهي وحسب.
ليس موسم الزيتون نزهة إلا لمن سعى إليه ساعة عصر عند صحبه، يسامرهم و"يغبّر" ملابسه خلال شربه الشاي معهم، ثم يعود إلى بيته ليرتاح بعد يوم متعب!
في استهلاكنا اليومي للشعار، نردد: "باقون ما بقي الزعتر والزيتون". واللطيف هنا أن الزعتر ابن الجبل، لا يزرعه أحد، إنه يشقُّ الصخر وينبت. وأما الزيتون، فأقل شجر في الكون يحتاج إلى عناية. إنه يعيش وحده.
بهذا المعنى فقط، ودون تدخل منّا، يمكننا أن نربط بثقة بقاءنا ببقاء الزعتر والزيتون.
اقرأ/ي أيضًا:
صور | البدَّادة.. ما تبقى من الزيتون
فيديو | زيتون زمان.. "رزق وهداة بال"