06-يونيو-2017

حافلة تقطع الجسر، على الحدود بين الأردن والأرض المحتلة (صورة أرشيفية)

كأنّ لي لسانًا مقطوعًا، شعرت وأنا أحاول القراءة والكتابة، عن ظلّي. عندما بدأت بتعلّم العبرية، قبل سنةٍ من الآن، وبدأت استمع واقرأ بالعبريّة، في كتاب مخصّص للقادمين الجدد، أو المهاجرين الجدد إلى "دولة إسرائيل".

تذكّرت، سائق التّاكسي الذي يهمهم ولا يتكلّم ولا يستطيع أن يتكلّم. في حينها، اعتقدت أنّه ولأنه لا يستطيع الكلام، فهو حتمًا لا يستطيع أن يفهم. تملّكتني الشفقة نحوه، وكنت لطيفًا على غير عادتي، وحاولت أن أستوعبه كالطفل، لأنّه لا يستطيع الكلام، لا يستطيع أن يتكلّم.

لدينا منذ زمنٍ طويل، أجساد مخضّبة بالدم، أورثناها للأرض وكانت جسر عبورنا المكسور هو أيضًا، إلى ظلّنا المكسور في المكان

عند العبور إلى الضفّة الغربية من جسر الأردن. جميعنا، الفلسطينيّون، نتحوّل إلى أطفال. أطفال من الصعب أن يفهموا ما هو المطلوب منهم. خاصّة، في الجسر الإسرائيلي. نقف في الطابور، ننظر من حولنا ونتلفّت، نحن نعرف تحديدًا ما هو المطلوب منّا، لأننا عبرنا هذا الجسر اللعين مئات المرّات. إلّا أنه ولخوف متجذّر في داخلنا من ارتكاب الخطأ ومن ثم تصليحه بارتكاب خطأ آخر. نتلفّت من حولنا إلى اللافتات ونراقب بحذر ما يفعل الذين تقدّمونا بالدور. ندقّق جيدًا، بكل ما يفعلون، نحاذر أن لا نرتكب الأخطاء. ومجندة إسرائيلية في الثامنة عشرة، أو جندي إسرائيلي في العشرين، يقف خلف النافذة الزجاجية، ويدقّق في وجوهنا وتصرفاتنا وشكل ذقوننا. آخرون يخبروننا أن نتمهّل، وآخرون يتململون من بطئنا، وآخرون يخبرونا بعكس ما نقوم به، وآخرون يصرخون. وما شعرت به في المرّة الأخيرة، أنه وجب إلصاق لافتة تقول:"أيّها الأطفال العربوشيم: اسمعوا جيّدًا كلّ ما يقال لكم، وحاولوا أن تفهموا".

وعلى الرّغم من الضجيج الذي نحدثه نحن الفلسطينيون العربوشيم ونحن ندخل الجسر، ومع هذا، فإن كل أصواتنا لا تدخل النظام المعلوماتي الصوتي الخاص بالإسرائيلي الذي يقف خلف النافذة الزجاجية. إن كل ضجيجنا وتململنا وشكوانا، وكل ما يصدر عنا من أصوات وملامح منزعجة وأخرى غاضبة وأخرى مهانة، كلّ هذا لا يدخل ضمن النظام المعلوماتي الصوتي أو البصري، عند الإسرائيلي إن هذا كل كلّه يعد: ضجيج. ضجيج وفقط. ضجيج بشر أقل منزلة من البشر العاديين. ضجيج بشر لم يستطيعوا بعد أن يتعلّموا المرور عبر حاجزٍ عسكري دون فوضى أو تباطؤ. ولكي لا أختبر هذه المشاعر كثيرًا، اعتدت التحديق في عيني مجنّدة أو جنديّ طوال الوقت، وغالبا ما يكون موضع التحديق مشغولٌ بغيري، كي لا أقع في مشاكل من نوع "عربيّ": لماذا تحدّق فيّ؟ وأروح أختبر مجموعة من الأفكار التي تشغلني عن الوضع العام كلّه. وكي لا أختبر هذه المشاعر كثيرًا أيضًا، اعتدت أن لا أقدّم تصاريح عبور إلى الأرض المحتلة خلف الخطّ الأخضر.

يحكون كثيرًا عن شواطئ مليئة بالعرب، نظيفة صباحًا، ومتّسخة في المساء. يحكون كثيرًا عن الكلفة الحضارية التي تدفعها صورتنا الحضارية المشوّهة أصلًا لدى الإسرائيليين. وأفكر، إذا كانت الأوساخ من خلفنا هي ما نستطيع أن نورثه للأرض كي نغذّي ظلّنا المكسور في المكان منذ عام 1948، فلتكن هذه الأوساخ، هي رسائلنا في الأرض.

لدينا طفلة سمراء تمدّدت على الأرض ساعات، ودمها نازف إلى شقوق الأرض، وهي صامتة ومن حولها ضجيج الحضارة المدججة بالسلاح. هذه الأجساد هي وجهنا

وأفكّر أن هذا تفكير مريض. إنّ لدينا ما هو أكثر سموًّا وجمالًا من الأوساخ نورثها للأرض. لدينا منذ زمنٍ طويل، أجساد مخضّبة بالدم، أورثناها للأرض وكانت جسر عبورنا المكسور هو أيضًا، إلى ظلّنا المكسور في المكان. لدينا أطفال تمدّدوا على الأرض ساعات وهم يئنُّون وما يزالون "عربوش"، في نظر المستوطنين. لدينا طفلةٌ سمراء تمدّدت على الأرض ساعاتٍ، ودمها نازفٌ إلى شقوق الأرض، وهي صامتةٌ ومن حولها، ضجيج الحضارة المدجّجة بالسلاح. هذه الأجساد هي وجهنا الآخر.

وأصلُ في نهاية المطاف إلى أننا الفلسطينيون، دم وضجيج. على الحواجز العسكريّة، التقى الدم بالضجيج، في الصباح دمٌ نازف، وفي المساء ضجيج. عربي ينزف وعربي يتململ. ألسنةٌ مقطوعة، لا هذا يتكلّم، ولا ذاك مُتكلِّمْ.

عندما بدأت بتعلّم العبريّة، بدأت القراءة والاستماع. إنّني أستطيع أن أفهم ما أقرأ وما أسمع. إلّا أنني لا أستطيع التحدّث. وعلى الرغم من العديد من الأحلام، التي بدأت أراها وأسمع فيها كلمات عبريّة ومشاهد كابوسيّة. إلّا أن الكلام كما هو، ظلّ خارج "نظام معلوماتي العربيّة". لم أستطع التعبير بالعبريّة، كما يجب عليّ، لكي أتقدّم في اللغة، ولم أستطع أن أتصوّر نفسي وقد بدأت الحديث بالعبريّة.

وبموازاة هذا الأمر، كنت أحاول الكتابة منذ أيّام، عن رواية إسرائيليّة، فيها "العربوش"، يغنّي عن أرض بلاده، الأرض التي يقول عنها الإسرائيلي الروائيّ، أنّها ليست له. حاولت مرارًا، ومزّقت الصفحات صفحة تلو الأخرى، محوت من على الشاشة الإلكترونيّة مئات الكلمات. كأنّ لي لسانًا مقطوعًا، شعرت، وأنا متسمّر أمام شاشة الكومبيوتر، وخلف النّافذة الزجاجية. لا أستطيع الكلام، وأعرف أنّي أستطيع الكلام.

ليس القتل تحديدًا ما يعيد للضحيّة صوتها المقموع، إلا أن الغضب أحمق، والغضب هو النّعمة الإلهيّة الأخيرة في جذور الوجود الإنساني

شعب مقطوع اللسان، نحن، أفكر وأنا أسمع في نشرة الأخبار كلّ يوم أخبار الشهداء الصغار في السنّ الذين يعبرون الحواجز العسكرية ويرتمون على الطرقات. أعيد مشاهدة فيديو التّحقيق الخاصّ بالطفل أحمد مناصرة. وأفكّر في الذين لا يملكون حقّ الكلام، ولو كان لهم لغة طليقة قديمةٌ ومتجذّرة في نفوسهم. الذين يهربون من واقع الصّمت والمنع، يعبرون الحاجز العسكريّ، إلى ماضيهم في هيئة كابوس الحاضر، ويبحثون عن جسد يطعنونه كيّ يفكّوا وثاق عجزهم ويكونوا من جديد بشرًا. ليس القتل تحديدًا ما يعيد للضحيّة صوتها المقموع، إلا أن الغضب أحمق، والغضب هو النّعمة الإلهيّة الأخيرة في جذور الوجود الإنساني، يندفع وينفلت من عقاله حينما لا يسمح للإنسان بأن يكون عاقلًا، حينما يجرّد من هويّته إلى آخر رمق، ومن وجوده إلى آخر هذا الوجود. لم يكن أحمد بطلًا، كما صوّرناه لنرفع عنّا عبئ رؤيته طفلًا إنسانًا عاديًّا يواجه الجنون الفاشيّ. ليسوا أبطالًا، كما نحنُ نريد أن لهم أن يكونوا، إنّما شهداء، يترفّعون عنّا وعن واقعهم الثقيل. البطولة هي استعارة مقطوعي الألسن أيضًا، لتكميم أفواههم، وقمع وجودهم العاديّ. البطولة، غير لائقة بزمن ساقطٍ كهذا أيضًا.

خلاصٌ فرديّ، أعود إلى كلمات الشهيد باسل، وأبحث عن المعنى الكامن في استشهاده وفي اختفائه السّريع عن مسرح هذا العالم، وهذه الأرضْ

خلاصٌ فرديّ، أعود إلى كلمات الشهيد باسل، وأبحث كما قال لنا أن نبحث نحن، عن المعنى الكامن في استشهاده وفي اختفائه السّريع عن مسرح هذا العالم، وهذه الأرضْ. وأقول، نحن الذين نبحث، صامتين، مقطوعي الألسن، نفكّر في خلاصنا الفرديّ، في قدرتنا على الهرب من واقع ثقيل، إلى مجال جويّ أكثر رحابة من عالم يضيق بنا. وربّما لو استطعت، لتصوّرت شهيدًا، يصحو من النوم، مقطوع اللسان، يحمله بيد وبأخرى صندوقا خشبيًا، يضع لسانه في صندوقه الخشبي ويضعه فوق الرفّ، ويخرج، تاركًا لنا، عبئ السؤال، وعبئ الإجابة.


اقرأ/ي أيضًا:

خطاب باسل الأعرج الأخير

أرجوكم.. لا تُغنّوا "أجمل الأمهات"

بدّك تصير عسكري؟