15-نوفمبر-2016

قبل بضعة أيّام، أعلن باحث ومؤرّخ من قرية "فقوعة" الواقعة في أقصى شمال مدينة جنين بالضفة الغربية، عزمه إحراق نسخ كتابه الذي أصدره قبل ثلاثة أشهر، بعد سنوات من الجهد البحثيّ، إثر تعرّضه لتهديدات بالقتل، على خلفية كتابه "فقوعة" الذي أثار جدلًا حادًّا بين سكّان القرية.

كتاب "فقوعة" أثار حفيظة أهالي القرية وأثار غضبهم، فقرر المؤلف إعدام كتابه، حرقًا

في قرية "فقوعة" التي تتوسط المسافة بين مدينتي جنين، وبيسان في الداخل المحتل، ويبتر طرفها جدار الفصل العنصري، يسكن باحث ومؤرخ في أواخر الأربعينيات من عمره، اسمه مفيد جلغوم، أعلن مؤخّرًا عبر فيسبوك، أنّه مصرٌّ على حرق كتاب ألّفه.

ما أوصل جلغوم لاتخاذ قرار الإعدام إشعالاً بحق نسخ الكتاب، هي الانتقادات الغاضبة التي وصلت حدّ التهديد بالقتل، بسبب تطرّق الكتاب لقضايا وُصفت بالـ "حسّاسة" و"الخطيرة" والتي يهدد الحديث فيها "السلم الأهلي واللحمة المجتمعية الوطنية في فقوعة"، وفق تعبير بيانات وقرارات صدرت عن عدة جهات، أعلنت البراءة من الكتاب، ونبذه ووقف نشره، منها قرار محافظ جنين، وبيانات فصائل فتح والجبهة الشعبية، ومجلس قروي فقوعة.

الحانقون على الكتاب، يقولون إنّ كاتبه خاض في أصول العائلات، وذكر أنّ بعضها جاء إلى فقوعة على خلفية الترحيل بسبب الدم (القتل). وتناول حقبة الانتفاضة الأولى مُلمِّحًا إلى بعض الإعدامات على الخلفية "الوطنية".

اقرأ/ي أيضًا: مستوطنات جنين.. هل هذا ما سنفعله بعد التحرير؟

محافظ جنين اعتبر أن الكاتب جلغوم، يسيء للعلاقات "الأخوية" بين الأردن وفلسطين

محافظ جنين إبراهيم رمضان، اعتبر في أحد قراراته الصادرة بهذا الخصوص، أن الكاتب جلغوم، يسيء للعلاقات "الأخوية" بين الأردن وفلسطين؛ إذ تطرق إلى انسحاب الجيش الأردني من فقوعة عام 67، من خلال حديثه نقلًا عن عدد من الرواة في القرية، أن بعض الجنود الأردنيين هربوا من وجه القوات الإسرائيلية بلباس نسائيّ.

ما أشعل "نار الانتقادات" على الكاتب، أنّه أتى على مرحلة "روابط القرى"، مستحضرًا على لسان أحد الرواة، أنّ فقوعة أوشكت على السقوط في "مستنقع الارتباط مع الاحتلال" لولا تدخل طاهر جلغوم -والد الكاتب-، برفقة عبد الله بركات –الراوي-، والشخصان أعضاء في منظمة التحرير، فاتُهم الكاتب بأنه يحتكر "الوطنية" لأبيه وصديقه.

وعرّج الكاتب جلغوم في كتابه على مهام المجلس المحلي في قرية فقوعة، وذكر منها تنسيقه مع "الارتباط الإسرائيلي"؛ بغية تسهيل حصول أهالي البلدة على تصاريح الاحتلال ليدخلوا صوب أراضيهم ويقطفوا زيتونهم الذي قضمه جدار الفصل العنصري الإسرائيلي. وهو ما ينكره رئيس المجلس المحلي في فقوعة عامر أبو فرحة، موضّحًا أن المجلس لا ينسق مع الارتباط الإسرائيلي بل مع الارتباط الفلسطيني الذي ينسق بدوره مع الإسرائيلي. أبو فرحة اعتبر ادّعاء جلغوم في كتابه، إساءة مرفوضة.

ومؤخرًا وبعد تصاعد الجدل بشأن الكتاب، أنشأ مجهولون صفحة "أحرار فقوعة" عبر موقع "فيسبوك"، تتهم منشوراتها الكاتب بأنه "نفخ" عائلته جلغوم، متغاضيًا عن حجم عائلات أخرى. ويظهر من منشورات الصفحة أنها متفرغة لانتقاد الكاتب ومهاجمته.

وأكد المؤلف أنّه لاقى التنديد والملامة والعتب من أشخاص وأطراف كثر؛ يتهمونه بالمحاباة على أكثر من مستوى، فمنهم اعتبر أنّه قلّل من شأن بعض الأحزاب السياسية أمام غيرها، وبعضهم وصفه بالتحيّز لأشخاص على حساب آخرين في قسم من الكتاب حمل عنوان "متميزون من بلدي".

20 صفحة من 352

ومن المهم الانتباه إلى أن هذه المواضيع المثيرة للجدل شغلت قرابة 20 صفحة، من كتاب "فقوعة" الذي يقع في 352 صفحة مقسمة على خمسة فصول تحاول التطرق إلى كل ما يتعلق بقرية فقوعة منذ مئات السنين في المجالات التاريخي والجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والإداري.

ومما جاء في الكتاب، التوثيق لشهداء فقوعة وحركتها الأسيرة والمبعدين والبيوت المهدمة، ولمعركة تحرير فقوعة عام 48، القرية التي أعيد تحريرها بعد احتلالها.

اقرأ/ي أيضًا: فارسُ المرمى يحرسُ الجنّة!

ويقول المؤلف في كتابه إنّ "المسيح" مرّ بفقوعة ومكث مدة زمنية فيها، وهو الأمر الذي عدّه المؤلف إسهامًا لاستقطاب السياح إلى فقوعة، كي يتتبعوا آثار المسيح.

واعتمد الكاتب في عملية التوثيق إلى جانب تتبعه الرواية الشفوية على ألسنة عدد هائل من الناس، الوثائق والسجلات المدنية والموسوعات وبطون الكتب والمراجع المتعلقة بمواضيع بحثه باللغات العربية والإنجليزية والعبرية.

احتفوا بالكتاب دون قراءته!

واللافت، أن بعض منتقدي الكتاب والمتحفظين عليه، تعتلي أسماؤهم صفحته الأولى؛ كمساهمين في دعم الكتاب وتمويله، منهم "مجلس قروي فقوعة" الذي قام على حفل إطلاق الكتاب، وبات اليوم يرى في الكتاب خطراً على السلم الأهلي. ومنهم "مكتبة فقوعة العامة" التي امتنع عضو لجنتها الشيخ محمود خضور، عن التصريح بموقف المكتبة من المؤلَّف الذي دعمته، مكتفيًا بالتأكيد لـ "ألترا فلسطين" على أنهم في "مكتبة فقوعة" لم يقرؤوا الكتاب كاملًا رغم أنهم دعموه.

بعض منتقدي كتاب "فقوعة" والمتحفظين عليه، تعتلي أسماؤهم صفحته الأولى؛ كمساهمين في دعم الكتاب وتمويله

أما عن الداعم الأول للكتاب، مجلس قروي فقوعة، فلم يتردد رئيسه عامر أبو فرحة بالتأكيد لـ "ألترا فلسطين" أنّهم –في المجلس- لم يقرؤوا الكتاب، مُبررًا ذلك بأن "مسؤولية تدقيق الكتاب ومراقبته تقع على عاتق وزارة الثقافة"، وأضاف بانفعال واضح "مش مطلوب مني أكون ناقد صحفي ولا أدبي، ولا أنا مدقق، إحنا دعمنا فكرة كتاب للبلد وطبيعي وين في إبداع ندعمه".

وأوضح أبو فرحة، أنهم في المجلس أمضوا شهرين من محاولات الإصلاح ولم يخرجوا بحل، وبعد ذلك تقدمت مجموعة من العائلات والأحزاب بعريضة يشتكون الكتاب بها، فوجّه المجلس بناءً على ذلك خطابًا رسميًا إلى محافظ جنين، طالبًا به أن تتلف هذه النسخة من الكتاب وتستبدل بأخرى مُعدّلة.

وأكد أبو فرحة، أنه يدعم باتجاه نسخة جديدة منقحة ليس إلّا "الموضوع ليس كما يشاع أننا نحارب الثقافة بإتلاف الكتاب، بل إن الكتاب أثار بعض القضايا الحساسة جدًا، والتي تضر النسيج المجتمعي في القرية، نحن لا نريد إلا تعديل الكتاب ومع نشر نسخة منقحة عنه".

حرق الكتاب ليس شجاعة!

"في البداية أنا.. لا أرى، حرق الكتاب، خطوة شجاعة، بقدر ما أعتبره تماشيًا مع واقع معيش. بل إن إعدامي لمنجزي هذا.. يعبّر عن بلوغي مرحلة اليأس.. كنتيجة قاسية، لما تعرضت له، من هجوم، وضيْم.. فعند انسداد، آخر أبواب الحل.. حياة الإنسان، أهم من حياة، الكتاب".

يقول مؤلف كتاب "فقوعة": إعدامي لمنجزي هذا.. يعبّر عن بلوغي مرحلة اليأس.. كنتيجة قاسية، لما تعرضت له، من هجوم، وضيْم

بهذه العبارات التي نطقها ببطء وثقل وكَمَد، افتتح مؤلف الكتاب مفيد جلغوم، حديثه لـ "ألترا فلسطين" عندما أمكنت زيارته في آخر ثلاثة أيام من محاولات أخذ موعد تكرر تأجيله بسبب ما ألمّ بجلغوم من إعياء ذهني وبدني إثر قضية كتابه "فقوعة".

وشدد جلغوم في رده على الانتقادات، أنه لم يُحرّف التاريخ في كتابه، ولم يتعمّد الإساءة لأحد، ولم يحابِ جهة على حساب أخرى، ولم يفترِ على عائلات فقوعة التي "يعتز بتنوعها".

ودعا الباحث، أصحاب الاعتقاد بأن "كتاب فقوعة مسيء للعلاقات بين الأردن وفلسطين"، إلى قراءة ما قال إنها مؤلَّفات كثيرة تتحدث بقسوة وصراحة عن تاريخ العلاقات الأردنية الفلسطينية خصوصًا "حقبة أيلول الأسود المفرطة بالحساسية"، بما فيها، كتاب "علاقة منظمة التحرير الفلسطينية بالنظام الأردني" للمؤلف غانم حبيب الله. وأردف جلغوم: "كل هذه الكتب يحتمل بحسب مقاييسهم أن تسيء للعلاقات أكثر من كتابي، ولم تفعل".

اقرأ/ي أيضًا: نفايات "ديمونا".. قاتل صامت في الخليل

وبعدما عرّف جلغوم، المؤرخَ بأنه باحث دوره توثيق الحقائق حلوها ومرّها بدون مواربة، قال: "رغم أنني تبعًا للعقلية العلمية غير مقتنع بحذف الأجزاء المثيرة للأزمة، إلا أنني تبعًا للعقلية الاجتماعية مقتنع بذلك! فبعد حرق هذه النسخة من الكتاب، إذا وجدت شغفًا وحماسة في نفسي سأنتج طبعة جديدة توارب عن كل ما قد يثير الحساسية لأبناء بلدتي ووطني الذين أحبهم ولا أعنى بتلف علاقتي بهم".

ويوجّه المؤلِّف رسالتين بعملية إحراق كتابه، واحدة داخلية لأهل فقوعة، فيها الحرص على العلاقات الاجتماعية الودودة، ومنع الفساد من الانتشار. أما الرسالة الثانية فيوجهها إلى خارج فقوعة: "إلى كل من يهمه الأمر، حرية الرأي والتعبير والنشر ليست في أحوال جيدة، والنقد هنا بعكس ما يفترض أن يكون لأهداف بناء الأعمال وتطويرها".

ومن المقرر أن يقدم الباحث مفيد جلغوم، في الأيام المقبلة، على حرق جميع نسخ كتاب "فقوعة" أمام عدد من أهالي البلدة. فهل يتم ذلك حقًّا؟!

اقرأ/ي أيضًا: 

سرطان الثدي قد يعني الطلاق بغزة

"حسبة" رام الله.. هل هي مكبّ لخضار وفواكه إسرائيل؟

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه