18-يوليو-2019

أجلس الآن في سيارة أجرة، متوقفة في طابور سياراتٍ أمام حاجز عطارة العسكري الإسرائيلي، ذاهبًا إلى نابلس للقاء أرملةٍ جميلة، تعرفت عليها على "فيس بوك"، أدرك أن توقيت زيارة نابلس اليوم غير ملائم على الإطلاق، فثمة عملية فدائية على حاجز زعترة، قُتل فيها مستوطنون.

الحواجز منتشرة على الطرقات والمستوطنون غاضبون، وأنا بطبيعتي المتهورة والمستعجلة أرغب بلقاء الأرملة التي كتبت تقول إنها تريد أن تحكي لي قصة حياتها، لأكتبها رواية، وإنها تريد أن تريحني من عناء اختراع المشاهد السريالية لأن حياتها عبارة عن مشاهد سريالية جاهزة.

- أنت بس انقلها نقل يا استاذ، الأحداث الغريبة جاهزة بس بدها منك اشوية صياغة وترتيب وتشذيب هون وهون.

تحمست للقاء الأرملة، ليس للاستماع لحكايتها كما بدا ظاهريًا من كلامي، "فأنا أتلقى عشرات الرسائل شهريًا من نساء لا أعرفهن، يكتبن لي عن حياتهن التي تصلح لتكون رواية"، بل للاستعداد لالتهامها، فغالبًا ما كانت هذه السياقات المخادعة طريقًا ممهدة للقاء جسدي متوحش.

سيارة الأجرة تتحرك ببطء، أستطيع أن أرى من وراء أكتاف الركاب أمامي جنودًا إسرائيليين يصفعون شبانًا، أخرجت محفظتي، وتأكدت من عدم نسياني لبطاقة هويتي.

أمام الجنود كنت أرتجف من الخجل والخوف وهم يطلبون مني رفع قميصي، ليتأكدوا أن خصري لا يحمل متفجرات، رفضت طلبهم بأدب، طلبوا أن أخلع البنطال إلى ما تحت الخصر بقليل، هنا كدت أسقط على الأرض هلعًا، وكان عليّ أن أتصرف.

-يا جندي، أنا رجل فلسطيني يكتب القصص القصيرة.

نظر الجندي في وجهي طويلاً:

لكني لا أحب القصص القصيرة، أحب الطويلة. حظك سيئ هذا اليوم.

الموقف كان محرجًا جدًا، خلفي ألف سيارة بسائقيها وركابها يحدقون في ما يحدث أمامهم، أكاد أسمع صوت كلمتهم الوحيدة: يا حرام، أمامي جندي لا يحب القصص القصيرة بيده هراوة، وفي عينيه مللٌ مسبقٌ وآمن من كل شيء، طلب مني الجندي مرة أخرى أن أخلع بنطالي لمزيد من التأكد من كوني بريئًا، هنا كدت أسقط على الأرض رعبًا، وكان عليّ أن أتصرف.

- يا جندي هل قرأت كتاب "سائق الحافلة الذي أراد أن يصبح ربًا" لإدغار كيرت؟

-ماذا قلت؟ إدغار كيرت؟ أقرأت حقًا لإدغار كيرت؟ أوه أنت تحب إدغار مثلي إذن، هذا يكفي، هيا اذهب اذهب.

-وهكذا نجوت بفضل إدغار كيرت القاص الإسرائيلي المشهور، الذي قرأت له قصصًا مترجمة للغة العربية، قررت أن أستخدم هذه الحيلة أمام كل حاجز عسكري إسرائيلي، للنجاة من إهانات الجنود، واصلت سيارة الأجرة طريقها ببطء خلف مئات السيارات، وأمام حاجز عيون الحرامية كنت أخرج بطاقتي للاستعداد لإهانةٍ جديدة، كان الجندي طويلاً جدًا وأشقر جدًا، ويبدو من ملامحه أنه ثلاثيني العمر، رأيت في عينيه الزرقاوين عشراتٍ من القصص القصيرة المقروءة لإدغار كيرت، وسمعت أصوات تأثره ودهشته من عالم كيرت.

- شو اسمك؟

- زياد

- شو شغلك؟

- معلم

- وين بروح؟

- على نابلس

- راح اتشوف مين بالضبط؟

- راح أشوف أرملة جميلة

- عن شو راح تحكوا مع بعض؟

- عن حياتنا وعن الأدب وربما عن الجنس

- شو كمان؟

- راح نتناقش حول قصص الكاتب الإسرائيلي إدغار كيرت.

بعد هذا الكلام كنت أنتظر انفراجًا أو توقفًا في وجه الجندي، لكنه واصل تحقيقه المتعجرف معي حول زيارتي لنابلس، وبدأت أدرك أن إدغار كيرت عاجزٌ هذه المرة غن إنقاذي. طلب مني الجندي أن أعود إلى السيارات وأطلب من السائقين أن يطفئوا تشغيل سياراتهم.

-غلى الدم في عروقي، فهذا منتهى الاستهتار بكاتب قصة قصيرة، يفضل الموت على أن ينفذ هذا الأمر.

- لا أستطيع تنفيذ أمرك يا جندي فأنا كاتب قصة قصيرة، وكتاب القصة القصيرة لا ينفذون أوامر الجنود.

وكأن السماء كانت تمطر أكفًا وأقدامًا، من الأرض ومن السماء انهمرت على وجهي وظهري وبطني عشراتٌ من أقدام وأيادي الجنود، ركلاً وصفعًا، رأيت نفسي بين أيادي ركاب فلسطينيين، يحملونني ذاهبين بي إلى سيارة شخص تطوع لأن يقلني إلى أقرب مشفى.

- أمام بوابة مشفى رام الله كان جنود الاحتلال ينصبون حاجزًا لتفتيش الداخلين والخارجين، صوبوا البنادق لرأسي الذي ينزف

- وين بروح؟

- للعلاج يا جندي

- مين ضربك؟

- كارهو القصة القصيرة. والذين لم يقرأوا ادغار كيرت!

- إدغار كيرت؟ أوه، نحن نحب هذا الكاتب، لكن كيف تعرفه أنت؟

-  هذه قصة طويلة يا جندي دعني أدخل لوقف نزيف رأسي.

قرب سريري في المشفى كانت تتمدد على سرير آخر امراة جميلة كانت تعاني من جروح في رأسها هي الأخرى.

- من أين أنتِ يا سيدة وما قصة جروح رأسك؟

- جنود حاجز عطارة هشموا رأسي لأنني رفضت تفتيشهم المهين، الذي لا يليق بامرأةٍ أرملةٍ ذاهبة للقاء كاتب مشهور تطوع لتحويل حكايات حياتها الغنية إلى روايةٍ سريالية.


اقرأ/ي أيضًا: 

ابنة وزير الخارجية

حكاية مقتحم الأعراس

صورة في فندق