كم أشعر بالخجل من استمرار حجب المواقع الإلكترونية بقرارٍ قضائيٍ استجابة لطلب النيابة العامة وبناءً على توصية مجهولة المصدر بوجوب حجب هذه المواقع؟
أشعر بخجلٍ شديدٍ لأن من أصدر مثل هذا القرار أصلاً، لا يعرف معنى الحجب ولا أثره، ويعتقِدُ أنه أسدى خدمةً ما لطرفٍ ما بمثل هذا الحجب، ولا يدري أنه سجل بصمةً سوداء في تاريخ حرية الصحافة، ومسَّ بكرامة الناس وفرض نفسه وصيًا على ذوقهم في المعلومات التي يرغبون في الاطّلاع عليها.
من قرّر حجب المواقع لا يدري أنه مسَّ بكرامة الناس وفرض نفسه وصيًا على ذوقهم في المعلومات التي يرغبون في الاطلاع عليها
أشعر بخجلٍ شديدٍ لأن من قرر الحجب لا يعلم أن سياسة الحجب قد ولت الى أبد الآبدين، ومن يدعي الحجب لا يهمه سوى تسجيل مواقف لا أعلم كيف سيتم استثمارها! وعند من سيتم استثمارها. لكنها سياسة مخجلةٌ لن تجر سوى الإحراج لشعبٍ ما زال يناضل من أجل حريته.
اقرأ/ي أيضًا: خطيئة حجب المواقع الإلكترونية
أشعر بالخجل لأن من قرر الحجب لا يعلم كم عانى الفلسطينيون حتى تمكنوا من خلق منابر إعلاميةٍ يستطيعون من خلالها نقل روايتهم إلى العالم، لتزاحم الروايات الأخرى التي تزاحم الرواية الفلسطينية.
أشعر بالخجل لأن من قرر الحجب لا يعلم أننا كنا نحتال على أشد القوانين عنصرية وانتهاكًا للحرية، ألا وهي قوانين الاحتلال التي كانت تحظر منح الفلسطينين رخصًا لإصدار مطبوعاتٍ صحافيةٍ منذ عام 1967 إلى عام 1993. وكنا كفلسطينين نصدر النشرة تلو النشرة، تحت عنوان نشرة لمرة واحده للالتفاف على القانون العسكري الإسرائيلي، وكان بذلك يصل الصوت الفلسطيني إلى كل بيت فلسطيني، وإن كان بصورة محدودة، لكنه كان يصل.
أشعر بالخجل لأن من قرر الحجب لم يكن يعلم أننا في ذروة الانتفاضة الأولى، ومن وسط مدينة القدس، حيث كان يُحظر وجود الفاكس في الضفة الغربية، كنا نوزع النشرة الإخبارية اليومية كل ليلةٍ من الساعة الثانية عشرة منتصف الليل حتى الساعة السادسة صباحًا.
من قرر الحجب لا يعلم أنا كنا نصدر النشرة تلو النشرة تحت عنوان نشرة لمرة واحدة للالتفاف على القانون العسكري الإسرائيلي
أشعر بالخجل لأن من قرر الحجب لا يعلم كم صحافيًا فلسطينيًا اعتُقل ولوحق وهو يحاول توزيع مطبوعة سرية أو صحيفة عربية لا يسمح بتوزيعها سوى في مدينة القدس. ولا يعلم كم صحافيًا فلسطينيًا دفعوا حياتهم ثمن نقل الكلمة الحرة، فهو بالتأكيد لا يعرف الصحافي حسن عبد الحليم الذي قتلته يد الغدر عام 1985 حين كشف صفقات تسريب الأراضي، ولا يعرف من فقدوا حياتهم من بعده من أجل الكلمة الحرة.
اقرأ/ي أيضًا: يوم الحجب الأكبر
أشعر بالخجل من سياسة الحجب، لأن من قرر حجب المواقع الإلكترونية لا يعلم أن أهم إنجازٍ للسلطة الفلسطينة منذ نشوئها ولغاية اليوم هو إنشاء وسائل إعلام فلسطينية مرئية ومسموعة ومقروءة، وهو الإنجاز الذي لا يستطيع أحدٌ إنكاره، وهو فخر الفلسطينيين.
أشعر بالخجل من الحجب كونه يترافق مع سياسةٍ ممنهجةٍ لدى إدارات مواقع التواصل الاجتماعي تقضي بحجب المضمون الفلسطيني، فقد أغلقت إدراة "فيسبوك" عشرات الحسابات والصفحات الفلسطينية، وحظر "واتساب" عشرات الأرقام الفلسطينية، في أخطر هجمة تحدث في ظل نكوص رسمي في التصدي لهذه الحملات، في وقت وقعت فيه الحكومة الإسرائيلية اتفاقيات رسمية لحجب الرواية الفلسطينية.
أشعر بالخجل كون أن من قرر الحجب لم يستطع أن يحمي موقعًا واحدًا فلسطينيًا من الإغلاق، ولم يفتح حتى حوارًا مع إدارات هذه المواقع لوقف سياسة الحجب، بل قرر أن يقدم غطاءً لها من خلال طلب إغلاق مواقع تقرر إغلاقها بقرار فلسطيني وجاهر بذلك دون خجل.
أشعر بخجل لأن ما أغلق بقراركم إما صفحات مهنية أو صفحات لا متابعين لها. أما الصفحات المسمومة والتحريضية فهي ما زالت تتصدر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وتستهدف الجمهور الفلسطيني ولا تجد أية ممانعة أو حتى تصدي قانوني لها.
أشعر بخجلٍ من الحجب كونه جاء في وقت ما زال فيه رصاص الاحتلال يقتلع عيون الحقيقة، فالحقيقة يبدو أنها مرة، مرةٌ على من قرر اقتلاع عين الصحفي الفلسطيني معاذ عمارنة ومنع الحقيقة، ومرةٌ على من قرر حجب المعلومة عن الناس من خلال حجب عيونهم عن الحقيقة.
الحقيقة يبدو أنها مرةٌ على من اقتلع عين معاذ عمارنة، ومرةٌ على من قرر حجب المعلومة عن الناس
أشعر بالخجل كون مقالاتي المتخصصة التي طالما اتسمت بالدقة والمصداقية، وهي نتاج خبرة عملية تفوق الثلاثين عامًا، قُدّمت إلى المحكمة لتبرير قرار الحجب، وكأن من قدمها يجهل تاريخ الصحافة الفلسطينية، ولا يعلم أنني ملتزمٌ بالكتابة الصحافية منذ عام 1989، وأنني كنت وراء كاميرا واحدة من خمسة كاميراتٍ فقط في الضفة الغربية كانت ترصد أحداث الانتفاضة الفلسطينية، وبتنا في مشافي وعلى مقابر كي نقوم بواجبنا، وغالبًا من قرَّرَ الحجب لم يكون قد وُلِد بعدُ في تلك المرحلة ليعي اليوم مخاطر الحجب.
أشعر بالخجل وسأبقى أشعر بالخجل ما دام الحجب سياسة فلسطينية، ولن أتحرر من خجلي إلا حين تقرر المحكمة الدستورية أن المادة القانونية التي منحت سلطة حجب المواقع الإلكترونية، مادةٌ معيبةٌ وغير قانونيةٍ ويجب وقف العمل بها، وأن تعود كل المواقع للعمل، المشينة منها قبل الحميدة، فلدى الناس ذوق، ويميزون بين الغث والسمين دون الحاجة إلى حجبكم للمواقع.
لكل هذه الأسباب، وأسباب أخرى آثرت ألا أذكرها، أشعر بالخجل الممزوج بالغضب على سياسة تكميم الأفواه المتمثلة باقتلاع عيون الصحفيين وحجب المواقع، فكلا الحالتين لا يبررهما قانونٌ ولا أخلاق مهنية، وأقل ما يمكن أن يقال بها سياسة قصر نظر مصيرها الفشل مهما طال الزمن، وأخجل أن أضع كلا الحالتين في نفس الميزان بناءً على تجربة عمرها ثلاثون عامًا في العمل الصحافي.
اقرأ/ي أيضًا: