05-نوفمبر-2016

بينما يُكتب هذا المقال يتم تفقد الضوء الأخضر باستمرار بجوار اسم شهيد ما على صفحات الفيسبوك. على أمل أن كثرة الذكر تلغي الموت، وأن تزاحم الكلمات حول اسم الميت قد يوقظه من جديد. ومن أجل هذا تُكتب القصص والأوجاع وتدون المآسي، وهاهي الكلمات تأتي غزيرة دامية ومليئة بالدموع قد تلغي الموت، وإن لم تلغه فلعل الحديث عن وجع الموت يكون سببًا في إنقاذ حياة أناس ما زال أمامهم متسعُ من الوقت والحظ للنجاة.

الفلسطينيون فقراء عندما يتعلق الأمر بالحظ وبالجغرافيا أيضًا، فما تبقى من الأرض هو مجرد فتات والدموع التي ذُرفت على الأراضي الضائعة ستكون أكثر من مساحة الأراضي "المتبقية"، هذا لو افترضنا أن بإمكان أحد ما أن يكون عادلاً ودقيقًا ليقيس الدموع أولاً ثم ليسمح لها بأن تكون جزءًا من المعادلة ثانيًا. لو كان بإمكان هذا الأحد أن يقيس الدموع ويسوي الأمر بناءً على ذلك لكانت الموازين حتمًا لصالح الفلسطينيين.

الفلسطينيون فقراء عندما يتعلق الأمر بالحظ وبالجغرافيا .. الاحتلال لم يترك شيئاً يُذكر من الجغرافيا، والتاريخ لعبةٌ معقدة يتحكم بها كل شيء إلا الحقيقة

الاحتلال لم يترك شيئاً يُذكر من الجغرافيا، والتاريخ لعبةٌ معقدة يتحكم بها كل شيء إلا الحقيقة؛ والإسرائيليون يملكون كل شيء. ولكن الفلسطينيون أيضًا يملكون الكثير عندما يتعلق الأمر بالحكايات، نعم الحكايات التي قد تُروى لطفل قبل النوم، أو تُستوحى منها الأشعار والقصائد، أو تتحدث بها امرأة خمسينية عبر مداخلة إذاعية قصيرة بوصفها كانت شاهدة على إطلاق جنود الاحتلال النار على طفل بالجوار، بينما كانت هي تقف على شرفة بيتها تنشر الغسيل.. "كان يرتدي قميصًا أزرق أظنه زيًا مدرسيًا، ربما كان عائدًا من المدرسة، تذكرت لقد كان عائدًا من المدرسة بالتأكيد فقد كان معه حقيبة ظهر ملونة.. نعم حقيبة وضعها أرضًا وفتحها كما طلب منه الجندي ولكن الأخير أطلق عليه النار.. على الطفل! يا إلهي لا أعلم لماذا قد يطلق أحدهم النار على طفل عائد من المدرسة! لماذا!!".

اقرأ/ي أيضا: أساطير فلسطينية

الحكايات لا تتضمن فقط ما كان بل أيضًا ما كان يمكن أن يكون لو لم يتدخل الإسرائيليون، فهؤلاء يجعلون كل شيء يسير بشكل غير طبيعي، فبدلاً من أن يمشي الأبناء في جنازات آبائهم - عندها يكون التقدم بالعمر سببًا من أسباب الموت- يحمل الآباء أبناءهم إلى المقابر كل اليوم. والقبر ليس مكانًا طبيعيًا لشاب في العشرين انتقل إليه للأبد بسبب رصاصة بالقلب. كان عليه أن يذهب إلى جامعته كل يوم وأن يكون هناك ضوء أخضر بجوار اسمه في صفحة الدردشة على الفيسبوك الآن، شابٌ في العشرين لا يليق به أن يظل صامتًا هكذا طوال الوقت!

كتب إبراهيم نصر الله  في روايته أعراس آمنة: "هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ إنها تصبح ملكًا لأعدائناً". والإسرائيليون لصوصٌ بارعون، لا يكتفون بسرقة الارض لأنهم يعلمون أن سرقة الأرض وحدها لا تكفي؛ وإنما عليهم أن يسرقوا ما فوق الأرض وما تحتها، ما هو أهم من الأرض أو بالأحرى عليهم أن يسرقوا ما يحافظ لهم على الأرض التي سرقوها. ومن أجل ذلك يمكنك أن تجد في قائمة الطعام في مطعم بالولايات المتحدة الأمريكية طبق "الكسكس الإسرائيلي". والكسكس هو طبق مغربي شبيه بطبق المفتول الفلسطيني من حيث الشكل وبعض المكونات، ولكن "الكسكس الإسرائيلي" هو المفتول الفلسطيني بذاته! وبالطبع يمكنك أن ترى السرقة -عينك عينك- عندما يتعلق الأمر بالثوب الفلسطيني.

أطباق الطعام، الأزياء الشعبية والموسيقى جزءٌ أصيلٌ من الحكاية التي يجب أن يحارب الفلسطينيون كي لا تُسرق منهم، والوجع أيضًا جزء أصيل من الحكاية؛ وعلى الموجوع أن يكتب وجعه، ليس لأن الكتابة ستعيد الحقوق أو تغير الجغرافيا أو تمنع الاحتلال من سرقة المزيد من الأرض، ولكن لأنها تحفظ الذاكرة من التلاشي وتُثبت الحق على الأقل في قلب صاحبه.

بالنسبة للشعوب المحتلة فالكتابة ربما لا يجب أن تكون فعلاً إبداعيًا يقتصر على الأدباء فقط، بل فعلاً شعبيًا يكون فيه توثيق الوجع بالكتابة عنه شكلاً من أشكال مقاومة الاحتلال. وربما يصبح الإبداع وقتها حالة عامة، فالوجع يخلق الإبداع كما يقول جبرا إبراهيم جبرا: "الفلسطينيون كلهم شعراء بالفطرة، قد لا يكتبون شعرًا ولكنهم شعراء لأنهم عرفوا شيئين هامين: جمال الطبيعة والمأساة". 

بالنسبة للشعوب المحتلة فالكتابة فعلٌ شعبيٌ يكون فيه توثيق الوجع بالكتابة عنه شكلاً من أشكال مقاومة الاحتلال

 إذا كانت الدول الحرة تتحدث كثيرًا عن الرأي العام وأهمية التعبير عنه وتعتبره دلالة على صحة المجتمع وديمقراطية النظام، فإن الأمور قد تختلف بالنسبة للشعوب تحت الاحتلال، حيث أن الرأي العام لا قيمة له ولا وزن ولذلك وجب خلق مفهوم يوازيه بالأهمية ويكون دلالة واضحة على أن هذه الشعوب ليست بخير، وأن أمورها لا تسير بشكل طبيعي لأنها تعيش في ظل ظروفٍ غير طبيعية وهي رافضةٌ للتأقلم، وليكن هذا المفهوم هو "الوجع العام" الذي يثبت أن هذه الشعوب تتوجع وأنها لم تألف الوجع، فالوجع بالنسبة لها مازال أمرًا غير طبيعي وهي ترفضه، وأن الذين ماتوا بالرصاص ليسوا أرقامًا، وأن لكل منهم حكاية لا تقتصر على ما عاشه بل على ما كان يحب أن يعيشه، لو كان يملك وقتاُ أكثر. وهذا الوقت وإن لم يتسنَّ لصاحبه أن يعيشه فيجب أن يُكتب بوصفه جزءاً من الوجع العام.

قالت الكاتبة والناشطة الامريكية ذات الأصول الافريقية أليس والكر، التي عملت وكتبت من أجل عالمٍ أفضل تتحقق فيه المساواة والحرية دون تفريق جنسي أو طبقي أو عرقي، إن رواياتها حملت أفكارًا وهمومًا تشعر بأنها كانت محمولة في صدور أسلافها وأرادوا أن ينقلوها من جيلٍ إلى جيل. وهذا ما تفعله الكتابة، إنها لا تسمح للوجع بأن ينتهي بل تجعله في يقظة دائمة، وأن تكون موجوعًا يعني أنك مازالت غاصبًا وقادرًا على المقاومة.

أن تكون فلسطينيًا في عام 2016 لا يختلف كثيرًا عن أن تكون  مواطناً من أصل أفريقي في الولايات المتحدة عام 1960، فهو يعني أنك ستتعرض للعنف والتمييز العنصري وستحرم من دخول أماكن محددةٍ لمجرد أنك أنت، وأنك يمكن أن تقتل بدم بارد دون أن يحاسب قاتلك بالجدية التي يستحقها الموت.

إن الانتماء إلى جماعة ما يمنح أفرادها مشاعر قد يكون الوجع أحدها. الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عرف الزنوجة بأنها: "موقف عاطفي حيال العالم"، وأن تكون فلسطينيًا هو أيضًا موقف عاطفي حيال العالم. هذه الكلمة "فلسطيني" هي كومة من المشاعر والأفكار التي تختصر الكثير، مثلاً كيف ترى العالم وكيف تريده أن يراك وكيف تسعى لتحقيق هذه الرؤية؟ وعلى الفلسطينيين أن يُجيدوا كتابة أنفسهم والتعبير عنها حتى يتسنى للعالم أن يرى قضيتهم بعيون تستطيع رؤية مساحة الوجع العام التي تسود المجتمع كله بشكل واضح.

عندما يكون الوجع العام بخير سيضيء الضوء الاخضر دائمًا بجوار اسم كل شهيد في صفحة الدردشة على الفيسبوك، لن يتمكنوا من قول الكثير فقد قالوا كل ما عندهم، ولكنهم سيكونوا موجودين أكثر، ربما كجرح دائم يبرر السعي الفلسطيني الحثيث وراء الحياة على هذه الأرض.

اقرأ/ي أيضا: 

نظّارتي الطبيّة.. صديقتي التي أكره!

البرجوازية الوطنية الفلسطينية

حكاية الشعب اليهودي في فلسطين