19-سبتمبر-2019

المنظمات الأهلية الفلسطينية في أسوأ أحوالها، ضائقةٌ مالية تحل بالعديد منها بعد انحسار مصادرها التمويلية، بعض المؤسسات أغلقت أبوابها والبعض الآخر على وشك الإغلاق، وقدرتها على التشغيل في تراجعٍ مستمر، ولا يُستبعد أن نستيقظ يومًا لنجد أن العمل الأهلي الفلسطيني أصبح في خبر كان، في ظل الحصار المالي الذي تتعرض له المنظمات الخيرية.

      لا يُستبعد أن نستيقظ يومًا لنجد أن العمل الأهلي الفلسطيني أصبح في خبر كان   

تزامنًا مع ذلك، تتعرض بعض هذه المنظمات لحملات تحريضٍ إسرائيليةٍ ممنهجة، في وقت لا تعي فيه المؤسسة الرسمية الفلسطينية حقيقة ما تتعرض له مؤسسات العمل الأهلي من ضغوط، ناهيك عن حملات شيطنةٍ تتعرض لها، في وقت تبرُز فيه بين فينةٍ وأخرى محاولاتٌ لتعديل قانون المنظمات الخيرية والقواعد الناظمة لعمل الشركات غير الربحية، وكل هذه المحاولات يمكن أن ينجم عنها في نهاية الأمر كسرٌ لشوكة المجتمع المدني.

اقرأ/ي أيضًا: مجتمعنا المدنيّ أغصان بلا جذور

أبرز التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في المرحلة الحالية هو إغلاق الحسابات البنكية لعدد من منظمات قطاع غزة، إذ توقف بنوك القطاع حسابات بعض المنظمات لأسباب مختلفة، فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته شبكة المنظمات الأهلية لأعضائها البالغ عددهم 68 عضوًا في قطاع غزة، تبين أن ما يقارب 22% من حسابات المنظمات الأهلية البنكية متوقفةٌ، بناءً على إيعازٍ من وزارة الداخلية في رام الله للبنوك بتجميد الحسابات البنكية للمنظمات الأهلية، لحين اعتماد مجالس الإدارة الجديدة وتجديد اعتماد مجالس الإدارة المعتمدة سابقًا من قبل الوزارة، وهذا يأخذ بالعادة وقتًا طويلًا قد يصل لأشهر.

أضرارٌ عديدةٌ لحقت بالمنظمات الأهلية بفعل تجميد حساباتها وفقًا لتقرير شبكة المنظمات الأهلية، أبرز هذه الأضرار عدم قدرتها على الإيفاء بالتزامتها تجاه العملاء والموردين، وتوقُّف نشاطات العديد من المشاريع، وعدم حصول الموظفين على رواتبهم، إضافة لخسارة المنظمات الأهلية لعددٍ من المنح المقدمة من قبل المموّلين بسبب عدم استيفاء الشروط، ومنها إفادةٌ بنكيةٌ بأن حسابات المنظمة المختلفة فعالة، وكذلك إغلاق بعض المنظمات الأهلية لأنها لم تستطع البقاء بسبب عدم وجود حساب بنكي لها في البنوك المعتمدة من سلطة النقد. 

       منظمات أهلية خسرت منحًا وأوقفت مشاريع وأخرى أغلقت أبوابها، بسبب تجميد حساباتها البنكية بقرار من وزارة الداخلية     

رفض البنوك فتح حسابات المنظمات الأهلية يساعد في انتشار الفساد المالي في هذه المنظمات، لعدم إمكانية الرقابة المالية من أداء عملها تجاه موارد المنظمات الخيرية والهيئات الأهلية.

التشدد في تعامل وزارة الداخلية مع منظمات قطاع غزة يترافق مع الأزمة المالية التي تعاني منها مختلف المنظمات الأهلية الفلسطينية، فغالبية مصادر التمويل توقفت، ولم يتبقَّ سوى القليل، بعد أن اتجه المانحون إلى بلدان أخرى. ويبدو أن ما تبقى من مصادر تمويل لمؤسسات المجتمع المدني في طريقها للتحول إلى بلدان أخرى في المغرب العربي وأفريقيا، فيما الحكومة لا تقدم أي مصادر تمويليةٍ للمنظمات الخيرية، بل تنظر الحكومات بعين الحسد إلى هذه المنظمات وكأنها تقتطع مساعداتٍ هي بالأصل مخصصة للحكومة.

اقرأ/ي أيضًا: العمل الأهلي الفلسطيني.. كرة في ملعب التمويل

بدأ رئيس الوزراء السابق رامي الحمد الله ولايته بانتقادٍ شديدٍ وجهه في العام 2015 إلى المنظمات غير الحكومية، وشكك في صدقية ونزاهة مؤسسات المجتمع المدني وأثار حولها شبهات الفساد، وسارت حكومته باتجاه فرض مزيدٍ من القيود على المنظمات غير الربحية التي هي إحدى مكونات المجتمع المدني. 

تبرز بين الفينة والأخرى تصريحاتٌ مناهضةٌ للمجتمع المدني، أشدها ما ورد على لسان العضو السابق في المجلس الثوري بسام زكارنة، وهو شخصيةٌ مقربةٌ من الحكومة الحالية رغم خصومته الشديده مع الحكومة السابقة، إذ وصف في مقالةٍ نشرها قديمًا وأُعيد تداوله مؤخرًا، بعض مؤسسات المجتمع المدني بأنها "أوكارٌ للموساد والمخابرات العالمية هدفها تدمير المجتمع الفلسطيني وتفكيكه". 

وقال زكارنة، إن "مسؤولين إسرائيليين على تواصلٍ مع هذه المؤسسات ويقودونها بشكل مباشر من خلال بعض المسؤولين فيها، أو بشكل غير مباشر من خلال أجهزة مخابرات عالمية، حيث أن 80% من هذه المؤسسات يؤدي الدور بفعالية مطلقة، ويساهم في بث الفتنة وسرقة أموال الشعب الفلسطيني". 

وأضاف، "تنحصر المؤسسات الأهلية في البحث عن أي قضية داخلية وإثارتها مثل قضايا الفساد وحقوق الإنسان والديمقراطية".

زكارنة وكذلك أحد القضاة المتقاعدين، قال إن راتب أحد مدراء المؤسسات يزيد عن 15 ألف دولار، في محاولة منه لتصوير حجم الفساد الذي تعانيه مؤسسات المجتمع المدني، لكن اللافت أن ذلك لا يستند إلى حقائق، فالمنظمات الأهلية الخيرية تخضع لرقابة رسميةٍ خارجيةٍ عديدة مثل هيئة مكافحة الفساد، وديوان الرقابة المالية والإدارية، ووزارات الاختصاص، ووزارة الداخلية، ومدقق الحسابات، والهيئات العمومية للجمعيات، إضافة لرقابة وسائل الإعلام. 

الحقيقة الواردة في تقارير لجان الرقابة الخارجية مخالفةٌ للانطباعات السابقة، فبالاستناد إلى تقرير هيئة مكافحة الفساد للعام 2018، تلقت الهيئة 492 شكوى وبلاغًا يتعلق بالفساد، بلغ عدد الشكاوى المتعلقة بالمنظمات الخيرية 12 شكوى مقابل 293 شكوى تتعلق بالقطاع العام، و159 شكوى تتعلق بهيئات الحكم المحلي، أي أن نصيب المنظمات الأهلية كان 2% من شبهات الفساد مقابل 60% من شبهات تتعلق بالقطاع العام، فالفارق بين القطاعين ليس بسيطًا. 

      2% هي نسبة شبهات الفساد التي تلقتها هيئة مكافحة الفساد في المنظمات الأهلية خلال عام 2018، مقابل 60% في القطاع الحكومي     

من بين كل هذه الشكاوى التي تلقتها هيئة مكافحة الفساد، أُحيلت 20 شكوى إلى المحكمة، كانت بينها شكوى واحدة تتعلق بالمنظمات الأهلية، وبالتالي فإن وصف هذه المنظمات بالفساد وسرقة أموال الشعب وصفٌ لا يمت للحقيقة بصلة، وفيه الكثير من التجني على هذه المنظمات.

أما بخصوص الشركات غير الربحية، وهي جزءٌ مهم من المجتمع المدني وعددها 269 شركة حتى نهاية عام 2016، فهذه تخضع لرقابةٍ أقل تشددًا نسبيًا من الرقابة التي تخضع لها المنظمات الأهلية. وقد كشف تقريرٌ أعده ديوان الرقابة المالية والإدارية استهدف حوالي 52 شركة غير ربحية وتناول رواتب مدرائها، أن راتب شركة واحدة تُدعى شركة أصدقاء الأرض مقداره 26 ألف شيكل، تليها شركة المركز الصحية وراتب مديرها 16 ألف شيكل، يليه راتب بقيمة 7 آلاف شيكل، فيما بقية الرواتب المنشورة في جدول العينة التي تناولها ديوان الرقابة المالية والإدارية يصل في أعلى حد إلى 4 آلاف شيكل، وبالتالي تقل معدل رواتب هذه المؤسسات عن معدل الرواتب التي يتلقاها مدراء وموظفو الهيئات الحكومية غير الوزارية الفلسطينية، ومن ضمنها المؤسسات الرسمية الرقابية.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يفشل الإعلام الفلسطيني في حفظ السلم الأهلي؟

لا أعتقد أن عمل المنظمات الأهلية منزهٌ عن الخطأ، بل هناك الكثير مما يمكن نقده خاصةً في برامجها وديمقراطيتها الداخلية، ولم أتوانَ يومًا عن انتقاد برامجها أو قصور أدائها في مقالاتٍ ومواقف عديدة، وسأفعل ذلك لاحقًا، لكن الأخطاء ليست بقدر حملة التشويه التي تتعرض لها هذه المؤسسات ووصلت حد الشيطنة وليس نقد الداء، والتعامل معها كأنها جسمٌ يقع خارج مكونات المجتمع المدني، متناسين أن هذه المنظمات تشغل أكثر من 40 ألف  فلسطيني، وتُعدُّ قوة تشغيلية هامّة ذات أثر اقتصادي، وتساهم في إدارة عجلة الاقتصاد الفلسطيني بفاعلية كبيرة لا يمكن إنكارها.

إن الدور الوطني لمنظمات العمل الأهلي لا يمكن إنكاره، وهو أكثر فاعلية من دور المؤسسات الرسمية، وغالبية التقارير التي تصدر عن جهاتٍ رسميةٍ في مختلف القطاعات هي في الأصل تقاريرٌ ومعلوماتٌ نشرتها مؤسساتٌ أهليةٌ فلسطينيةٌ وليس العكس، عدا عن اختلاف الوظائف والأدوار، فحركة المقاطعة BDS هي حركة مجتمع مدني يقابلها على المستوى الرسمي لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، ويمكنكم تلمّس الفرق في الأدوار والفاعلية بين الحركتين.

     الدور الوطني لمنظمات العمل الأهلي لا يمكن إنكاره، فهو أكثر فاعلية من دور مؤسسات رسمية       

يُشار هنا أيضًا إلى الدور الذي تقوم به المؤسسات الحقوقية في اللجان والمنظمات الدولية، وهو يتفوق على الدور الذي تقوم به وزارة الخارجية الفلسطينية في أحيان كثيرة، عدا عن الخدمات الصحية والزراعية وغيرها من القطاعات التي يفوق حجم الخدمة فيها ما تقوم به وزارات، وبالتالي من المعيب وصف مؤسسات المجتمع المدني بأنها أداةٌ في يد الاحتلال، أو أنها تعمل في مستوطناتٍ وهي رائدةٌ في العمل الوطني.

أعتقد أن على الحكومة الفسطينية أن تعي بجديةٍ أكبر أهمية مؤسسات المجتمع المدني ودورها، وأن لا تتعامل معها كمنافسٍ أو نقيض، وأن تعي أن هذه المؤسسات هي التي ملأت الفراغ الوطني قبل نشوء السلطة الفلسطينية، وهي القادرة على ملء الفراغ لو انهارت السلطة يومًا ما، لذا لا بد من توفير كل مصادر الدعم لها. 

اقرأ/ي أيضًا: شبهات فساد نتيجة فجوة زمنية بين الحسابات الختامية للسلطة

لا بد من إنشاء صندوقٍ وطنيٍ لدعم المنظمات الأهلية الفلسطينية خشية انهيارها، في ظل استمرار الحصار المالي الذي تتعرض له، صندوقٌ يمكن تغذيته من الإعفاءات الضريبية والجمركية التي ينص عليها قانون المنظمات الخيرية ولا يعمل به، وبنسبةٍ من أرباح الشركات الكبيرة مثل البنوك والاتصالات وغيرها من القطاعات الاقتصادية التي لا تتحمل أي مسؤولية اجتماعيةٍ حقيقيةٍ في إسناد هذا القطاع، وبنسبةً أيضًا من الدخل الذي يتلقاه الموظفون العموميون، وبمصادر أخرى من التمويل يمكن ابتكارها.

أعتقد أن على السلطة أن تعيد نظرتها إلى هذه المؤسسات، وأن توعز فورًا إلى سلطة النقد بالإيعاز رسميًا للبنوك بتسهيل عمليات فتح حساباتٍ بنكيةٍ للمنظمات الأهلية، ورفع تجميد حسابات المنظمات القائمة، وأن تسرع وزارة الداخلية في رام الله بإجراءات اعتماد مجالس الإدارة، فبمثل هذه الإجراءات يمكننا أن نحمي مؤسسات المجتمع المدني من الانكسار.

وللسلطة الفلسطينية -إن نظرت بعينٍ أوسع- مصلحةٌ كبرى في بقاء منظمات العمل الأهلي قوية، وهذه رسالةٌ كم أتمنى أن تلتقطها الحكومة، كما أن هذه المؤسسات ومن باب الشفافية ملزمةٌ بنشر موازانتها وسُلّم الرواتب فيها، ويجب أن تكون كل معلوماتها متاحة للجمهور.


اقرأ/ي أيضًا: 

فلسطين.. نسوية وتمويل

فصائل البريد الإلكتروني

تقرير "أمان" عن القضاء والفساد وأشياء أخرى!