مهمة الأمان هنا هو تذكيرك بالخوف، أما الحياة الرغيدة المتكاملة بعيدًا عن البلاد؛ فليست إلا خدعة قدرية لتذكرك دائمًا بالنقص الأليم في داخلك، فحركة السير المنظمة، والغابات الشاسعة، وابتسامات الناس ولطفهم، والمشي الآمن ليلاً، والحيوانات الأليفة حقًا، وشركات التأمين الصحي التي قد ترسل لك رسالة اعتذار عن خلل في فاتورتك الشهرية، كل هذا لا يغريك بالاستمتاع به بقدر ما يذكرك بالمسافة الفاصلة بين العالمين اللذين تحملهما في داخلك، العالم الذي أتيت منه والعالم الذي تعيش فيه.
الحياة الرغيدة المتكاملة بعيدًا عن البلاد، لا تغريك بالاستمتاع بها بقدر ما تذكرك بالمسافة الفاصلة بين العالمين اللذين تحملهما في داخلك
في كل مرة يسألني أحدٌ هنا من أين أنت؟ أقلق من المنطقة التي سيأخذنا إليها الحديث، قد أبدو غريبة الأطوار وأنا أخبرهم بأن هذا السؤال معقد وتصعب الإجابة عليه، هكذا وبكل بساطة خلال حديث عابر، "ربما سأحتاج قلمًا وورقة حتى أجيبك" أقولها مازحة لمن يسألني.
اقرأ/ي أيضًا: مكالمة فائتة من البلاد
الخريف هنا هائل الجمال، نحن الذين لم نألف جمال الخريف في بلادنا، نُشبه ما نراه في أمريكا وأوروبا باللوحة المرسومة بدقة، وكأننا لم نكن نتوقع أن الله رسم في بلاد غير بلادنا مساحات عجيبة من الطبيعة الملونة. هذه المساحات التي كنا نرسمها وكأنها وحي من الخيال في دفاترنا، مرفقة بجداول مياه وبيوت خشبية بأسقف من القرميد الأحمر، كلها موجودة هنا، كلها حقيقية. عند هذه المساحات الملونة أفكر في نصيب الشهداء من كل هذا، هل رسموا هذا يومًا في دفاترهم المدرسية؟
كيف نخبئ للشهداء نصيبهم من الزمان الذي لم يعيشوه والأماكن التي لم يزوروها؟ علينا أن نجد طريقة لفعل ذلك! مثل الأمهات اللواتي يغرفن أطباقًا من الحساء ويخبئنها لأبنائهن المتأخرين عن العشاء. علينا أن نغرف لهم شيئاً من الأشياء الجميلة التي تحدث هنا. ضحكات الأطفال وهم يلعبون في منتزه عام، أشجار الخريف الملونة، النكهة الجديدة لعصيرهم المفضل، أو القمصان الزرقاء ذات الياقات البيضاء. أتخيل أننا نفعل هذا حقًا، وبينما نفعله نجثو جميعًا على ركبنا محملقين بذاكرتنا، لنرى ما تبقى لهم في داخلها ونزيد عليه. أفكر في كل هذا بينما يبدو الجو مناسبًا جدًا للمشي في الخارج. أمرُّ بجوار المقبرة، والمقابر هنا مليئة بالورود، والقبور لا ترتفع عن الأرض، ومثلما تبدو الحياة هادئة يبدو الموت هادئًا أيضًا.
كلنا نقترب من الموت يوميًا، أُطمئن نفسي، الموت ليس مخيفًا وليس بالأمر السيء، أطمئن نفسي مرة أخرى. ولكن الحياة الهانئة هنا قاسية جدًا على الأشخاص الذين جربوا نقيضها، فأبناء الحروب يخيفهم الهدوء، وسيارات الإسعاف التي تتحرك لنقل المرضى ومصابي الحوادث؛ ستظل بالنسبة لهم رصاصًا تأخر عليه الأطباء. أي جريمة يرتكبها الهاربون من الحروب بحق أنفسهم عندما يهاجرون!
ألجأ لبلادي لتفسير مشاعري اتجاه البلاد الجديدة التي أعيش فيها، ألجأ للخوف لإدراك قيمة الأمان، وأُعيد من خلال الموت صياغة معانٍ جديدة للحياة، أبحث عن وصفات تقلل من تأنيب الضمير الذي يصيبني لأنني أنعم بأمان لا ينعم به الكثير من أهلي وأصدقائي، وليس غريبًا أن لا أجدها. أُخضع غضبي للهدوء بقراءة قصص عن تاريخ العبودية والتمييز العنصري والاحتلال حول العالم وأخبره بأن كل ما يحصل لنا جزء من "الدورة الطبيعية" للحياة، أطلب منه أن لا يخاف من الخوف، وأن يخاف إذ استدعاه الأمر. أما قلبي فأرجو أن يصلي للذين لا يجدون الأمان، وأن يفعل من أجلهم كل يوم شيئًا، كأن يتحدث كثيرًا عن الموقع الجغرافي وحالة الطقس ووصفات الطعام لبلاد لا يعرف الكثيرون هنا أن أهلها يدافعون عن وجودهم بالموت.
اقرأ/ي أيضًا: