31-مارس-2017

يبلغ بك اليأس أحيانًا أن تؤمن أنّ بإمكان الإسرائيليين أن يصمتوا طوال حياتهم وأن لا يدافعوا عن جرائمهم إنكارًا أو تبريرًا، وسيظلون للأبد كما يُعرّفون أنفسهم للعالم: ضحايا الإرهاب الفلسطيني. ولكنّهم لا يفعلون ذلك، بل ولا يكتفون برواية حكايتهم للعالم من خلال وسائل إعلامهم المتنوعة بلغات مختلفة وتقنيات حديثة. إنهم يختارون عرض حكايتنا الفلسطينية التي يرغبون أن يسمعها العالم بلغتنا من خلال وسائل إعلامهم. 

"استشهدت السيّدة سهام نمر أم الشهيد مصطفى نمر"، جملة تحمل حزنًا مُركّبًا، وتبدو مناسبة لما قاله الشاعر المصري عماد أبو صالح:

"وكلما توجهت رصاصة لصدره
 بدقة تامة،
 تمرُّ لحسن الحظ
 من ثقب قديم في القلب".

فموت الأم كان موتًا للمرة الثانية، ليس مؤلمًا وليس مخيفًا ربما لأنها سبق وجرّبته من قبل، عند استشهاد ابنها مصطفى قبل أقل من عام (أيلول/ سيبتمر الماضي)، بعد أن أطلق جنود الاحتلال النار على مركبته بدعوى محاولته تنفيذ عملية دهس. بذات الحُجّة قتلت الأم قرب باب العمود في القدس المحتلة بعد محاولتها تنفيذ عمليّة طعن. 

لماذا نتقبل نحن وجود الصحافة الإسرائيلية بالقرب من أطفالنا، وهي شريك أساسيّ في الجرائم الإسرائيلية الممارسة ضدّنا؟!

الخبر بالنسبة للفلسطينيين مؤلمٌ بشكل يختلف عن باقي أخبار الاستشهاد التي باتت في مفارقة غريبة الجزء القاسي والعادي من حياتهم، فالمجرم هُنا لم يكتف بقتل الشاب بل عاد وبعد حين وقتل الأم، تبدو القصة وكأنها مفاجأة في فيلم لا يمكن أن يكون حقيقيًا، فكيف للمجرم أن يعود إلى موقع الجريمة ويرتكب جريمة جديدة بحق ذات العائلة!

سيتحدث الإعلام الفلسطيني كثيرًا على هذه النقطة لإثبات وحشية الاحتلال، ولكن ماذا تُجهّز لنا وسائل الإعلام الإسرائيلية من مفاجآت في حال أرادت الحديث عن الأم والابن؟ لن نتفاجأ كثيرًا إذا استخدم الإسرائيليون القصة لإثبات أنّ الإرهاب الفلسطيني سمة عائلية، وأن الفلسطينيون مجرمون بالجملة. فالإعلام الإسرائيلي إعلام ذكيّ ومجهّز بكلّ التقنيات التي تساعده على تصويرنا كيفما شاء.

في مقال نُشر سابقًا على موقع الترا فلسطين بعنوان (نحن والإعلام الاسرائيلي.. ثلاث ملاحظات) يصف كاتب المقال وسائل الإعلام الإسرائيلية بالسلطة القامعة، فيقول: "لا يمكننا التغاضي أثناء حديثنا عن وسائل الإعلام الإسرائيليّة والعلاقة معنا نحن الفلسطينيين، عن كون هذه الوسائل تُمارس بحقّنا قمعًا إعلاميًا مستمرًا. فإذا كانت وسائل الإعلام في العصر الحديث يُصطلح عليها تسمية "سلطة رابعة" كتعبير على مدى قدرتها في التأثير وصياغة الوعي وتشكيل رأي عام وتوجيهه، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية تلعب هذا الدور فيما يتعلق بالعرب والفلسطينيين كسلطة قامعة".
 
وعن القمع الإعلاميّ فإن أساليبه كثيرة، غير أنّ هناك قمعٌ يتميز به الإعلام الإسرائيلي ألا وهو "القمع الناعم" إن صحّت التسمية، وفيه لا يتم إطلاق الأحكام والصفات القاسية على الفلسطينيين، بل يجعلهم يقولونها للكاميرا مباشرة، وأبرز ضحايا هذا القمع هم الأطفال. أمّا أبرز ممارسيه فهو مراسل القناة الإسرائيلية الثانية "هنريك زيمرمان"، الذي ظهر في أكثر من مقابة وتقرير أشهرها تقريره من وسط شوارع غزة في آذار/ مارس عام 2016 بعد أن نجح في دخول القطاع باستخدام جواز سفره البرتغاليّ، وزيارة بيوت عائلات شهداء ولقاء شخصيات أكاديمية وسياسية من حماس على أساس أنه صحفي برتغاليّ. 

يمكنك أن ترى صُحفيًا إسرائيليًا وهو يُعدّ تقريرًا من قلب مخيّم جنين عن الاشتباكات المسلحة بين الأمن الفلسطيني ومسلحين، وفي مخيّم بلاطة بنابلس، ستراه يتجوّل برفقة "المطلوبين الأمنيين". 
تقارير كثيرة يظهر فيها الصحفيون الإسرائيليون في مناطق وبيوت فلسطينية، ولكنّ أخطر ما قام به الصحفي الإسرائيلي هو مقابلاته الأخيرة مع مجموعة من الأسرى الأطفال داخل قسم (13) بسجن عوفر، وهو القسم المخصص للأسرى الأشبال ممن تقل أعمارهم عن 18 عامًا، ويقبع فيه نحو 120 أسيرًا من الأطفال على خلفية اتهامهم بتنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال.

في التقرير يعكس الصحفيّ الإسرائيلي ايهود خيمو الأدوار بينه وبين الأطفال، ليبدو هو الضحية والطفل الأسير هو الجلاد في كل مرة يردد عليه أسئلة تتمحور حول التعايش الإسرائيلي الفلسطيني مثل: ماذا تعرف عنّي كإنسان؟ هل تحدثت مع يهود أو إسرائيليين من قبل؟ هل يمكننا بعد عشرين عامًا العيش معًا على هذه الأرض؟ ومع كل إجابة بالنفي للطفل يزداد تقمص الصحفي لدور الضحيّة.  

تداول الفلسطينيون تقرير القناة الثانية بالكثير من المديح على الأطفال وإبداء الإعجاب بكلامهم الشجاع الموزون حول المقاومة. وما قد يتناساه المشاهدون خطورة هذه النوعية من المقابلات على الأطفال أنفسهم، خاصة الذين لم تصدر بحقهم أحكام بعد، والذين قد تعتبر هذه المقابلات أدلة إدانة ضدّهم خاصة أنهم سيتحدّثون بحماسة أو غضب عن أفكارهم ومشاعرهم كفلسطينيين لمحدّثهم الإسرائيليّ. 

وبينما يضع الفلسطينيون كل من يظهر على الشاشات الإسرائيلية من أدباء ومفكرين وسياسيين عرب وفلسطينيين على لائحة العار، فإنّ الغضب الجماهيري لم يكن ذاته عندما دخل ذات المراسل بيت الأسيرة المحررة الطفلة ملاك الخطيب في شباط/ فبراير عام 2015 حيث ظهرت الطفلة وأهلها في مقابلة مصورة لصالح القناة الإسرائيلية الثانية في منزلهم الكائن في قرية بيتين قضاء رام الله.

في التقرير تجيب ملاك على أسئلة "الصحفي" حول المقاومة والوطن، وتحدّثه عن وجع السجن وقسوته. فكيف سمحنا لهؤلاء بالحديث مع أطفالنا بينما نحن نرفض تمامًا أن نُحدّثهم!

لا يوجد الكثير من اللوم والعتاب على أهالي الأطفال الأسرى فهم يمرون بوقت صعب وتركيز الإعلام عليهم قد يكون مربكًا، بحيث يصعب عليهم التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ في ظل هذه التجربة الجديدة عليهم، وبالطبع "الصحفي الإسرائيلي" بارع في اقتناص هذه الحالة من الفوضى لإجراء مقابلة. اللوم الحقيقي هو على المجالس المحلية، المحامين، المنظمات الإنسانية والحقوقية، النشطاء السياسين. 

في الولايات المتحدة  الأمريكية يعتبر كل ما يخص الأطفال موضوعًا حسّاسًا ومُهمًّا، فإذا أردت التقدّم لوظيفة معلّم في مدرسة أو حضانة أو حتى لو أردت التطوع في مخيّم صيفيّ ترفيهي للأطفال، فإنّ عليك أوّلًا أن تخضع لفحص أمنيّ دقيق يتم فيه أخذ بصماتك للتأكد من خلو سجلك من الجرائم كشرط لتواجدك مع الأطفال.

فلماذا إذا نتقبل نحن وجود الصحافة الإسرائيلية بالقرب من أطفالنا، وهي شريك أساسيّ في الجرائم الإسرائيلية الممارسة ضدّنا، بل ونبارك شجاعة أطفالنا ونغازل إجاباتهم وننسى أن نتساءل: ماذا نربح من كلّ هذا؟ وماذا يخسر أطفالنا؟ وأيُّهما أهم؟ 


اقرأ/ي أيضًا: 

يحدث تحت أنوفنا.. عن اللجوء الأفريقي إلى إسرائيل

مليونيرية يقودون عصابات "الشيكات البنكيّة"

خيمة للزواج.. حُلمٌ مستحيل في سوسيا