17-فبراير-2023
قيادة المنظمة

"لا ضرائب بلا تمثيل"، كان الشعار الأبرز في حفلة شاي بوسطن (1773)، وهي من الحوادث المميزة في تاريخ الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا العظمى. ويمكن تطبيق هذا الشعار على الحالة الفلسطينية مع فارق الجغرافيا وحالة الاستعمار وشكله بين الحالتين الأميركية والفلسطينية. فذاك كان خلافًا بين مستعمرين وأسيادهم، وهنا التطابق قد يكون كبيرًا بين الأمريكان والإسرائيليين. لكن في الحالة الفلسطينية، الفلسطينيون هم "الهنود الحمر"؛ السكان الأصليون للبلد، وهم ليسوا هنود حمر من حيث المكان والزمان والحضارة، لكن في كلتا الحالتين، حرب الإبادة والتهجير والعنصرية واحدة.

وافقت قيادة منظمة التحرير، بقيادة ياسر عرفات، على تطبيق التنسيق الأمني طالما أنّ هناك مفاوضات تسوية مدتها خمس سنوات؛ بمعنى لا تنسيق بلا مفاوضات، ولا تنسيق بلا عملية تسوية تقود إلى تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف

لا يزال التنسيق الأمني بين السلطة الوطنية الفلسطينية الناشئة عام 1993 في مناطق العام 1967 والاحتلال الإسرائيلي، بندًا أساسيًا من بنود اتفاقية أوسلو. وافقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، بقيادة ياسر عرفات، على تطبيقه طالما أنّ هناك مفاوضات تسوية مدتها خمس سنوات؛ بمعنى لا تنسيق بلا مفاوضات، ولا تنسيق بلا عملية تسوية تقود إلى تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وعندما فشلت التسوية في كامب ديفيد 2 (1999)، أوقف عرفات التنسيق الأمني وأشعل فتيل المواجهات التي سُميت "الانتفاضة الثانية" (2000)، بعد تدنيس الإرهابي أرئيل شارون ساحات المسجد الأقصى المبارك. هذا هو منطق السياسة: أنا التزم بما تلتزم به، وإذا اخترقت الاتفاق أخترقه أيضًا.. لن ألتزم وحدي باتفاق لم يُنفّذ، فالاتفاقيات تُعقد لتكون حكمًا بين المتعاقدين.

اغتيل عرفات بالسم وهو صامد في مقره عام 2005، وبعد اغتياله، أعاد خلفاؤه الاعتبار للتنسيق الأمني، وقُضي على الانتفاضة في الضفة الغربية المحتلة، دون تحقيق أي هدف سياسي، بل حُمّل عرفات والعرفاتيين من أنصار نهجه، مسؤولية فشل المفاوضات، والمسؤولية عن أحداث "العنف"، وبات شعاره "ع القدس رايحين شهداء بالملايين" يُعدُّ تعبيرًا عن الانتحار السياسي والأمني لا طريقًا للخلاص، من قبل بعض الفتحاويين.

مرت ثلاثون سنة بالتمام والكمال منذ عام 1993، تخللها خمسة وعشرون عامًا من التنسيق الأمني بين حكومة الاحتلال وحكومة الشعب الخاضع للاحتلال، بقصد القضاء على النضال المُسلح وتجفيف منابعه ومنع حدوثه، رغم أن اتفاق أوسلو لم يُحقق إلا إدارة مدنية فلسطينية محدودة تتبع للإدارة المدنية الاستعمارية الإسرائيلية في بيت إيل، في كل ما يتعلق بحياة السكان الفلسطينيين، إضافةً إلى التنسيق الأمني، أي انها بصورة أو بأخرى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من منظومة الحكامة الاستعمارية. وتحت وهم بناء المؤسسات لإقامة الدولة الفلسطينية بحسب خطة جورج ميتشل، حوربت دعوات عناصر فلسطينية نضالية لمقاومة الاحتلال عن طريق الكفاح المسلح، فالكفاح المُسلّح يعني دمارًا وخرابًا وقتلًا مجانيًا بلا أي هدف، والمفاوضات هي الخيار الأوحد!

تعاقبت عدة حكومات بعد وقف الانتفاضة الفلسطينية المسلحة، وبدل تنفيذ خطة ميتشل للتسوية، انسحبت معظم الأحزاب الإسرائيلية من الخطة، وتخلت في برامجها عن حل الدولتين. ورغم كل ذلك، ظلت السلطة الفلسطينية تتمسك به بوصفه خيارًا وحيدًا، ورددت ذلك من بعدها الدول العربية والمجتمع الدولي. استمر الاستيطان والقتل والقمع ومصادرة الأراضي، وتطور إلى خطط الضم الشامل للضفة الغربية، ليُكافَأ الاحتلال عربيًا بالتطبيع، وفلسطينيًا بمواصلة التنسيق الأمني واستمرار الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني. تبخّر الحلم فلسطينيًا وأصبحت السلطة في نظر الشعب الفلسطيني حجر عثرة في مسار التحرر.

تعاقبت عدة حكومات بعد وقف الانتفاضة الفلسطينية المسلحة، وبدل تنفيذ خطة ميتشل للتسوية، انسحبت معظم الأحزاب الإسرائيلية من الخطة، وتخلت في برامجها عن حل الدولتين. ورغم كل ذلك، ظلت السلطة الفلسطينية تتمسك به بوصفه خيارًا وحيدً

منذ عام 2015، قفزت إلى ساحة النضال الفلسطيني ظاهرة الذئاب المنفردة، أو الأسود المنفردة "عرين الأسود". بدأت في ذلك الوقت بالسكين، وتطورت اليوم إلى السلاح والكتائب المسلحة، وانخرط في هذه التشكيلات عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومن كافة الفصائل الفلسطينية. إلا أنها ظاهرة جماهيرية لا فصائلية، لذا من الصعب السيطرة عليها وتحجيمها أو إنهاؤها. أعادت هذه الظاهرة للكفاح الفلسطيني بريقه وللفلسطيني كرامته. هلل لها الفلسطينيون أينما كانوا، وبين نهج المفاوضات والكفاح المسلح، اختار الشعب الكفاح المسلح وما تعززه من طرائق المقاومة الأخرى.

أوقفت السلطة الفلسطينية التنسيق الأمني، ونفّذت المقاومة الفلسطينية عملياتٍ في القدس المحتلة مرتين، وكذلك فعلت في أريحا، وفي أماكن مختلفة من الضفة الغربية. عادت القضية الفلسطينية لتتصدر نشرات الأخبار، وعادت فلسطين مجددًا إلى طاولة السياسة الإقليمية والدولية. أعرب المسؤولون الأميركيون عن غضبهم لوقف التنسيق الأمني، إذ لم يروا سوى ضحايا إسرائيليين، مُغمضين عيونهم عن ضحايا الجرائم الإسرائيلية. حمّلت الإدارة الأميركية المقاومة الفلسطينية المسؤولية، والحل يتمثلُ بنظرهم في تجنيد عناصر أمنية فلسطينية إضافية للقضاء على الفدائيين في جنين ونابلس، وهكذا تهدأ الأمور وتنتهي دوامة العنف. هكذا فقط! دون أي مطالب من الإسرائيليين ولا شروط، بحسب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووفده إلى فلسطين المحتلة. وإذا لم تستطع السلطة فعل ذلك بعناصرها الحالية، فبعناصر جديدة تتدرب في الأردن وتتربى على عقيدة قتالية جديدة لتقتل أبناء شعبها، دون خوفٍ أو حساب ضمير وطني أو إنساني.

يُقال إنّ السلطة الفلسطينية رفضت ذلك، فهل ستصمد أم تتراجع؟ وما ثمن التراجع سياسيًا واقتصاديًا؟ سياسيًا، أغلق بلينكن الباب حين قال إنّ الولايات المتحدة تؤمن بحل الدولتين على المدى البعيد، وهذا يعني عدم وجود حل في الوقت القريب، الذي قد يمتد إلى قرنٍ من الزمان، وربما لن تبقى أرض للتفاوض عليها، مع هذا التوسّع الاستيطاني. لا ندري بماذا ردّت قيادة السلطة على الوفد الأميركي القادم لوأد انتفاضة فلسطينية ثالثة، بالتأكيد أخبرته أنّ التنسيق الأمني لم يعد مُقدسًا ولم يعد ممكنًا، لكن لو امتلكت قيادة السلطة الجرأة، وهي تمتلكها إذ ليس لديها ما تخسره، لكان قولها: لا تنسيق بلا تسوية سياسية، ولا حماية لجنود الاحتلال ومستوطنيه بلا ثمن سياسي يشعر به الفلسطينيون.. لسنا جنود "لحد" ولسنا مرتزقة، نحن طلاب حرية وتحرّر لا نكترث بوعودكم الاقتصادية.

إن وقف التنسيق الأمني، يعني بالضرورة، تحوّل السلطة الفلسطينية إلى أداةٍ نضالية كفاحية، وعودتها إلى إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بدل الواقع الحالي الذي باتت فيه المنظمة محض دائرة فيها

تُحسن السلطة القول، لكن الأقوال قد لا تترجم إلى أفعال، فتبقى خطاباتٌ تُسجل للتأريخ ومن ثم يتم تجاوزها. وقف التنسيق الأمني يعني أن دولة الاحتلال وحدها المسؤولة عن أمنها، ووحدها المسؤولة عن حماية جنودها ومستوطنيها، ويعني نهاية السلطة كما تريدها دولة الاحتلال ورعاتها في الغرب، مجرد أداةٍ مساعدة للاحتلال وغطاء له.

إن وقف التنسيق الأمني، يعني بالضرورة، تحوّل السلطة الفلسطينية إلى أداةٍ نضالية كفاحية، وعودتها إلى إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بدل الواقع الحالي الذي باتت فيه المنظمة محض دائرة فيها، لا حول لها ولا قوة، سوى رمزيتها كممثلٍ شرعيٍ وحيد للشعب الفلسطيني. يُعدُّ قرار وقف التنسيق الأمني ثوريًا إذا التزمت به قيادة السلطة، إذ يعتبر خروجًا من سجن أوسلو، الذي لم يعد تكتيكًا، بل استراتيجية لا يُمكن الفكاك منها. قد يعني وقف التنسيق الأمني نهاية السلطة الفلسطينية وذهابًا نحو المجهول، لكن ما فائدة سلطة دون سلطة؟

كانت السلطة حلم الدولة، والحلم تبخّر، البعض يُفضّل رؤيته يتبخر قطرةً قطرة، على أن يُهدم بضربةٍ واحدة. في كل الأحوال، الوقائع تشير إلى تغير جذري قادم في الواقع الفلسطيني، وفي الواقع الإسرائيلي كذلك، والعالم يتجه نحو نظام دولي جديد نتيجة الصراعات الدولية الكبرى المتفجرة وتلك التي باتت قاب قوسين أو أدنى من التفجر، لكن من المؤكد أن فلسطين ستبقى قضية دولية وتحظى باهتمام العالم طالما ظلّ هناك ثائر فلسطيني مستعد للتضحية فداءً لوطنه وشعبه ومقدساته. وبسقوط التنسيق الأمني، سيهرع العالم إلى فلسطين، فالمسُّ بالمحتل يجعل العالم يصرخ كعادته، وإذا لم يرفع الخاضعين للاحتلال قبضتهم، فلن يبالي أحدٌ بشكواهم.