27-أبريل-2019

تزداد دعوات المواطنين والنشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى مقاطعه لحوم الدواجن بعد ارتفاع سعرها في السوق الفلسطيني إلى ضعف ما كانت عليه خلال الشهر الماضي، فقد وصل قبل عدة أيام سعر الكغم الواحد من لحم الدواجن إلى 18 شيقل بعد أن كان قد بلغ سعره خلال الشهر الماضي 8 شواقل، مع خشيةٍ كبيرةٍ من استمرار هذا الارتفاع خلال شهر رمضان الفضيل.

ارتفاع أسعار الدواجن ليس مسألة عفوية بل هو مدبرٌ تتشارك فيه أطرافٌ عدة ويستفيد منه كبار مربي الدواجن ويتضرر صغار المزارعين

وجاء الارتفاع الجنوني في أسعار الدواجن في ظل أوضاعٍ اقتصاديةٍ سيئةٍ سببها خفض رواتب الموظفين الحكوميين إلى النصف، ما نجم عنه انخفاض قدرة المواطنين الشرائية بما يشمل القدرة على شراء لحوم الدواجن، حيث يبدو أن هذا الارتفاع  كان يخطط له منذ فترة طويلة، ولا تتحمل الحكومة الحالية مسؤوليته، فهذه الخطة غالبًا ما تكون قد أُعدت منذ شهورٍ عدة، أي قبل تولي الحكومة لصلاحياتها، وبوشر بتنفيذها منذ أكثر من شهرين كون أن دورة الدجاج  اللاحم تحتاج إلى 40 يومًا، وقد أُعِدَّت لمرحلةٍ يزداد فيها استهلاك لحوم الدواجن عدة أضعاف، وهي ليست مفاجئة للجهات الرسمية المشرفة على هذا القطاع، فقد حصل الأمر ذاته قبل عامين فقط، وحرم الفقراء من تناول لحم الدواجن بأسعار معقولة حتى منتصف رمضان.

اقرأ/ي أيضًا: الديموكتاتورية نظام حكم فلسطيني

الارتفاع الجنوني في أسعار الدواجن ليس مسألة عفوية بل هو مدبر تتُشارك فيه أطرافٌ عدة، ويستفيد منه كبار مربي الدواجن ومحتكري السوق ويتضرر منه صغار المزارعين، وتتم العملية بالعادة على مرحلتين، ففي المرحلة الأولى يتم إغراق السوق الفلسطيني بالصوص اللاحم حتى تنخفض الأسعار بدرجةٍ كبيرة، ويتعرض صغار المزارعين إلى خسائر فادحة لا يستطيعون احتمالها،  فيتوقفون عن تربيتها لفترات  طويلة، وبعضهم يتوقف بصورة دائمة. بعد ذلك يخلو السوق  لمحتكريه من كبار المربين، فيباشرون التحكم بسعره ويرتفع ثمنه بشكل جنوني، فيحققون أرباحًا كبيرة على مدار عدة أسابيع، بينما يزداد غضب الناس  على سعره الجنوني، فتجتمع الوزارات المعنية لوضع حدٍ لارتفاع الأسعار، وتضع خطة جديدة تؤدي خلال أسابيع قليلة بعودة الدواجن اللاحمة إلى أسعارها الطبيعية، وبهذا يكون كبار محتكري الدواجن قد جنوا أرباحًا كبيرة، والجهات الرسمية سجلت قصة نجاحٍ في  ضبط سعر السوق، والخاسر الوحيد في هذه المعركة هم صغار المربين، وهم بالحقيقة عماد الاقتصاد المقاوم الذين تمت إزاحتهم من هذا السوق، فكل قريةٍ كانت إبان الانتفاضة الأولى عام 1987 تعج بعشرات مربي الدواجن، إلا أنها أصبحت الآن خالية إلا من كبار المربين.

 الارتفاع الجنوني في أسعار الدواجن، هو بمثابة تفخيخٍ من محتكري الدواجن للوعود التي قدمتها الحكومة ببناء اقتصادٍ مقاوم، فالاقتصاد المقاوم ليس مجرد تصريحٍ صحفيٍ يطلق هنا أو هناك للاستهلاك المحلي، بل يتطلب برنامجًا اجتماعيًا حكوميًا سينجم عنه بلا شك صدامٌ عنيفٌ مع محتكري السوق، وعلى وجه الخصوص طبقة الكمبرادور التي تلعب دورًا وسيطًا في إغراق السوق الفلسطينية بالمنتوجات الإسرائيلية وتحارب المنتوجات الوطنية وتتمتع في ذات الوقت بمكانةٍ اجتماعيةٍ ووطنيةٍ نابعةٍ من مكانتها الاقتصادية وتبوّئها دورًا سياسيًا، وقد حاول بعض وزراء الزراعة مثلاً من قبل حماية السوق من تجار البطيخ الإسرائيلي لصالح المزارع الفلسطيني، لكنهم لم يتكنوا من ذلك وبقي البطيخ الفلسطيني في الأرض،  وثبت أن  مافيا كبار المحتكرين هي الأقوى، وهي من تتحكم بالسوق والاقتصاد الفلسطيني.

أي خطة توضع لبناء اقتصادٍ مقاومٍ يجب أن تشمل اجتثاث جذور وسطاء البضاعة الإسرائيلية من طبقة الكمبرادور الفلسطينية

نشرت وسائل الإعلام مؤخرًا تصريحات رسمية حول بناء "اقتصاد مقاوم"، لكن الحكومة لم تعلن حتى هذه اللحظة أي خطةٍ أو برنامج عمل لتحقيق هذا النوع من الاقتصاد، فأي خطةٍ توضع لبناء اقتصادٍ مقاومٍ يجب أن تشمل خطوات حثيثة لاجتثاث جذور وسطاء البضاعة الاسرائيلية من طبقة الكمبرادور الفلسطينية، وبالتالي سيصطدمون مع  تحالفٍ اقتصاديٍ فلسطينيٍ – إسرائيليٍ مصلحته أن يبقى الاقتصاد الفلسطيني ملحقًا بالاقتصاد الإسرائيلي، ولن يسمح هذا التحالف ببناء "اقتصادٍ مقاومٍ" مهما كلف الثمن، وهذا التحالف  تتغول مصالحه داخل مراكز قوى نافذة ستعطل أية خطوات تهدد مصالحهم.

إن بناء اقتصادٍ فلسطينيٍ مقاومٍ سيواجه أيضًا بردة فعل إسرائيلية شديدة، فهي لن تتعامل مع الأمر بأنه أقل من حربٍ اقتصادية،  ولن يتعامل معها الكمبرادور الفلسطيني باعتبارها أقل من حربٍ داخليةٍ يجب حسمها لصالحهم، وبالتالي حين تقرر الحكومة أن برنامجها سيكون بناء اقتصاد مقاومة فيجب أن تكون مستعدة لمثل هذه  المعارك، ولديها خطة عملٍ ودعم شعبي لبناء هذا الاقتصاد، وعليها أن تقر التشريعات والسياسات  اللازمة لتحقيق برنامجها الاقتصادي، فالاقتصاد المقاوم يعني العودة إلى الاقتصاد الوطني على غرار ماحدث في بداية انتفاضة 1987، حيث ترافق مع قرار مقاطعة البضائع الإسرائيلية البدء ببناء اقتصادٍ شعبيٍ ووطنيٍ فلسطيني. ففي تلك الفترة  اختفت من الأسواق لسنواتٍ -على سبيل المثال- عدة الكوكا كولا الإسرائيلية وغيرها من المنتوجات الإسرائيلية، ونشأ في كل قرية عشرات مزارع الدواجن اللاحم والبياض، وعاد الناس إلى زراعة الأرض وتربية المواشي، وبدأ ينمو لدينا اقتصادٌ وطني، وأصبحنا في تلك  الفترة نملك اقتصادًا مقاومًا بعد سيطرةٍ إسرائيليةٍ على السوق الفلسطيني استمرت  لعقدين متتاليين منذ بداية الاحتلال.

 وحتى تنجح الحكومة في بناء اقتصاد مقاومة عليها أن تبسط يدها على السوق، وأن تمنع دخول البضاعة الإسرائيلية التي لديها بديلٌ وطنيٌ، وأن تضع سلسة من الإجراءات والخطط لبناء اقتصاد مقاومة، وأن يكون ذلك واضحًا في خطة الحكومة للـ100 يوم القادمة، فالاقتصاد المقاوم لا يعني إطلاقًا تشجيع الناس على صناعة المخللات البيتية، أو أن يعتمد غذاؤهم على الزيت والزعتر، بل يعني  اقتصادًا فلسطينيًا مبنيًا على أنقاض الاقتصاد الإسرائيلي، ولن يكون ذلك إلا بمعركةٍ مصيريةٍ تقودها الحكومة لبناء هذا الاقتصاد، جوهره تحكم الحكومة بالسوق بعيدًا عن فلسفة الاقتصاد الحر، وأولى مظاهر تحقيقه كيف ستتعامل الحكومة بعد الآن مع مافيا محتكري الدواجن، فما يفعله المحتكرون لا يتعدى كونه مساهمة في تفخيخ برنامجٍ كاملٍ أعلنت الحكومة رغبتها بتبنيه، فالأمر لا يمكن اعتباره مجرد ارتفاع أسعار، وما يجري لقطاع مربي الدواجن جرى ويجري مع مختلف القطاعات الاقتصادية الحيوية في فلسطين كالزراعة والعقارات والاتصالات ومواد البناء وغيرها، وبالتالي دقت ساعة بناء الاقتصاد المقاوم.


اقرأ/ي أيضًا:

قبل الضمان كنا "نهوهو ولا نعض"

القضاء والإعلام.. صراع أباطرة الحكم

إسرائيل تجهز لـ"حل البلديات"