15-أكتوبر-2022
gettyimages

gettyimages

تسميم آبار مياه الشرب، كانت التهمة الأولى، من بين ثلاثة اتهامات خطيرة وجهت لليهود، تحت تبريرات معاداة السامية وتحديدًا في أوروبا، بالإضافة إلى تهمة فرية الدم، ومفادها اتهام اليهود بأنهم يحتاجون إلى دماء بشرية لصنع خبز المصة لعيد الفصح، وأنهم يفضلون دماء الأطفال المسيحين من أجل صنع الخبز مستخدمين إياه بدلًا من الخميرة، والتهمة الثالثة هي تدنيس خبز القربان المقدَّس، وتنطلق من اتهام اليهود بأنهم لم يندموا صلبهم السيد المسيح فيسرقون هذا الخبز ويدوسونه بأقدامهم ليجددوا عذاب المسيح، كانت هذه التُهم والادعاءات مجتعمةً ذريعةً أساسية لاضطهاد اليهود في أوروبا، وتحديدًا ما بات يوصف بمعاداة السامية القديمة، أي تلك التي تقوم مزاعمها على أسس دينية، قبل أن تظهر معاداة السامية العلمانية لاحقًا.

وفي الوقت الذي كان يتهم فيه اليهود بتسميم آبار المياه في أوروبا، ويحاكمون على هذا الأساس في أوروبا، كان الأوروبيون أنفسهم يستخدمون هذه الطريقة في القتل

ومع انتشار وباء الطاعون في أوروبا والذي وصفت بـ"الموت الأسود" في السنوات ما بين 1346-1353، حُمّل اليهود مسؤولية انتشار الوباء، وظهرت اتهامات تدعي قيام اليهود بتسميم آبار المياه وتقديمهم للمحاكمة على هذا الأساس، بعد فشل العلم في تفسير انتشار الوباء. وفي بعض الأماكن، مثل مدن بازل وستراسبورغ، تم حرق مجتمعات يهودية بأكملها حتى الموت. لاحقًا، ظهرت اتهامات "فرية دم" في دمشق بسوريا، وكانت تهمةً موجهةً، وذلك بعد أن كشف القضاء عن كون هذه التهمة انتشرت في إطار الصراع بين بريطانيا وفرنسا.

وفي الوقت الذي كان يتهم فيه اليهود بتسميم آبار المياه في أوروبا، ويحاكمون على هذا الأساس في أوروبا، كان الأوروبيون أنفسهم يستخدمون هذه الطريقة في القتل، ضد الشعوب الأصلانية في القارة الأمريكية، فقد قام الغزاة الأوربيين بتسميم آبار المياه الخاصة بالشرب ونشر الجراثيم ونشر الأمراض مثل الطاعون والتيفود لإبادة السكان الأصليين بعد أن عجزوا عن استعبادهم. ومع ذلك تنجح الحضارة البيضاء بالإبقاء على هذه الصفحة من التاريخ بعيدةً عن الأضواء، لا بل أن أفلام هوليود الأمريكية كرست صورةً نمطيةً لأهل البلاد الأصليين على شاكلة الوحوش وحوش، ولأنه أما موتى أو أصبحوا أقليةً في بلادهم، لايستطيعون رواية القصص أو تدوين الجريمة، فيما حضارة الرجل الأبيض لم ترغب في توثيق الجريمة وإبرازها.

ويكشف التاريخ عن ارتباط وثيق بين نشر الجراثيم وتسميم الآبار وأوروبا،  فألمانيا، وقبل وصول النازية للحكم، استخدمت "تسميم الآبار" مع وسائل أخرى بين الأعوام  1904 و1908 في أول إبادة جماعية  في القرن العشرين بحق قبائل الهيريروس والناماس في نامبيا، قتل خلالها 8500 نسمة، وقادها الجنرال لوثر فون تروثا بتكليف من قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني، فتم قتل النساء والأطفال وتسميم آبار المياه المخصصة للشرب، وصدرت الأوامر بإبادة تلك القبائل الأفريقية في 2 تشرين أول/ أكتوبر من ذلك الجنرال بهدف خلق منطقة بيضاء خالية من السود، وأسفر ذلك عن إبادة حوالي 80% من الهيريروس و50% من الناماس، وحتى الآن ترفض ألمانيا تعويض الضحايا، ولم تعتذر عن جريمتها إلّا بعد مرور مئة عام ، عبر وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية هايد ماري فيكزوريك تسويل في آب/ أغسطس 2004 بعدما قدمت اعتذارًا بمناسبة فعاليات تخليد ذكرى المجازر.

يظهر تاريخ جرائم "تسميم الآبار ونشر الأمراض"، أنها نفذت وارتبطت في العموم بأبناء الحضارة الغربية بحق السكان الأصليين في قارة أفريقيا وفي القارة الأمريكية، وظلت بعيدةً عن أضواء التيار المركزي من وسائل الإعلام وآليات التنشئة الاجتماعية، لكن جريمة إبادة اليهود، كانت استثناءً في الضحايا من أبناء ذات الحضارة.

ورغم ما سبق والاتهامات التي سبق وأن وجهت لليهود في أوروبا، والمرتبطة في تسميم الآبار، إلّا أنه ومنذ أيام قليلة كشف عن تصرفات صهيونية شبيهة، خلال حرب استعمار فلسطين 1947 -1949، وتظهر عدة أدلة على استخدام العصابات الصهيونية وجيش الاحتلال "السلاح البيولوجي" ضد الفلسطينيين والعرب ضمن مجهودها الحربي من أجل استعمار فلسطين وطرد سكانها. والدليل الأول على ذلك على ظهر أمام القضاء المصري في قطاع غزة، بعد اعتقال مُستعربين في 22 أيار/ مايو 1948، أثناء محاولتهم تسميم آبار مياه، ثم أعدموا بعد إدانتهم أمام محكمة عسكرية، فيما واظبت الرواية الإسرائيلية على إنكار تلك التهم؛ باعتبار أن جريمة "تسميم آبار المياه ونشر الأمراض المعدية الفتاكة"، مسألة تنسف مبدأ "طهارة السلاح" الذي يكرره قادة "الدولة الناشئة حديثاً"، لكن الفلسطينيين لظروف موضوعية كثيرة لم يلتقطوها؛ فهم كانوا ضحايا ولاجئين، وليس بمقدور اللاجئ المُهجر من قريته هائماً على وجهه بعد مقتل أقربائه وسيف الموت يلاحقهم أن يدون ذلك الذي ظهر ترفًا أمام الحفاظ على الحياة، وهناك نوع من الجرائم التي تدبرها الدول  تظل طي الكتمان ما لم تتسرب دلائل من أرشيفاتها، أو أن تستيقظ بعض ضمائر من ارتكبوها. وحتى يحصل ذلك لن يصدق أحد اللاجئ الفلسطيني. مثلاً، هل تجرؤ صحيفة ألمانية على نقل شهادة لاجئ فلسطيني حول نشر الأمراض و تسميم آبار الشرب.

وضمن بحثي الشخصي، لم أجد روايةً متماسكةً حول "تسميم الآبار بالسُم والجراثيم"، خلال النكبة سواء كانت مكتوبة أم شفوية، وحتى لو وردت مثل هذه الروايات التوثيقية فإنه لم تتبوأ المكانة التي تستحقها، باستثناء قرار المحكمة المصرية إعدام المستعربين. لكن قبل أكثر من سبعة أعوام، تطرق المؤرخ العسكري الإسرائيلي أوري ميلشتاين على هامش ندوة لهذا الملف مؤكدًا أن مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها الأول دافيد بن غوريون أمر موشيه دايان بتنفيذ عملية لتسميم الآبار في القرى العربية، كوسيلة لإفراغها من أهاليها ومنع عودة اللاجئين، ولم يقدم ميلشتاين المزيد التفاصيل، لكن مع إيجازه حدد هدف العملية بوضوح.

وفي الدراسة الموسعة المنشورة حديثاً في مجلة "Middle Eastern Studies" بعنوان: "انثر الخبز: الحرب البيولوجية لإسرائيل خلال حرب 1948"، التي أعدها المؤرخ بيني موريس وبنيامين زئيف كيدار، بالاستناد إلى أرشيف الجيش الإسرائيلي، تؤكد وجود خطة سرية لتسميم آبار مياه الشرب بواسطة إدخال بكتيريا تؤدي إلى الإصابة بالتيفوس والدسنتاريا، لكن هذه الدراسة تضع أهدافًا للعملية السرية تتمثل بمنع الفلسطينيين من العودة لقراهم التي هجروا منها، وأيضًا تسميم آبار الشرب في المستوطنات  التي كانت الحركة الصهيونية تنوي تركها مؤقتًا، خوفًا على أمن مستوطنيها، وذلك بهدف منع العرب من السكن فيها في حال وصول العرب إليها. وبذلك يبدو الخلاف الجوهري والحاسم بين أهداف العملية بحسب دراسة بني موريس وبنيامين كيدار وتقدير ميلشتاين، هو أن الأخير اعتبر العملية وسيلةً لإفراغ القرى من سكانها، بمعنى أن الاستهداف كان موجهًا للمدن والقرى العربية قبل عملية التطهير العرقي، فيما اعتبر موريس وكيدار أن الهدف هو منع عودة الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم. وربما يعود الخلاف في تحديد الأهداف بين ميلشتاين وموريس وكيدار إلى طبيعة الوثائق التي وصل إليها كل فريق، وربما يكون ذلك إخفاءً متعمدًا.

من جانبه، يبرز بني موريس حقيقة هامة في دراسته، مفادها، أن غالبية المواد الأرشيفية المتعلقة بالعملية السرية لم تزل تحت أمر منع نشر من الرقابة العسكرية بالجيش الاسرائيلي ويحظر الوصول إليها من جانب الجمهور، ملحمًا إلى أنه اكتشف بعض الوثائق التي لم تصنف بأنها سرية، بسبب عدم معرفة الرقابة العسكرية بالاسم المشفر للعملية.

والحقائق الهامة التي تكشفها دراسة مورس وكيدار، تدور حول أن عملية التسميم كان واسعة النطاق وبمشاركة شخصيات رفيعة المستوى في الجيش الإسرائيلي وفي "اسرائيل"، إلى جانب بن غوريون، الذي اتخذ القرار بتنفيذها، شارك موشي دايان ويغآل ألون وافرايم كتسير الذي أصبح لاحقًا رئيسًا لـ"إسرائيل"، بالإضافة إلى أن الحركة الصهيوينة ووليدتها "إسرائيل" مستعدة لاستخدام كافة الأسلحة ضد عملية محو وإبادة السكان الأصليين في فلسطين.

وما أخفته الوثائق أو عجز عن كشفه بني موريس وكيدار لظروف موضوعية خلال دراستهم والوثائق التي كشفوها، يتعلق في التقييمات المهنية العسكرية للعملية التي امتدت لتصل مدن وقرى فلسطينية كثيرة، بالإمكان الافتراض أنه تم استنساخ نفس الأساليب بالتوالي ضد مدن وقرى فلسطينية على امتداد فترة زمنية، وهذا كان له ما يبرر من "النتائج الإيجابية"، كما أن الدراسة لم تعطٍ تقديرًا أو تبين عدد الفلسطينيين الذين قتلوا بهذه الطريقة.

وتظهر الدراسة أنه تم استهداف عدة مدن وقرى ضمن الحرب البيولوجية خلال النكبة وهي  أريحا وبئر السبع وعيلبون في الجليل والقرى العربية بالقدس وهي بدو وبيت سوريك وبيت محسير، وتستعرض الدراسة، وفقاً لصحيفة هآرتس إدخال بكتيريا التيفوئيد إلى آبار عكا، ووفقًا لتقارير الجيش البريطاني والصليب الأحمر، قتل العشرات من الفلسطينيين (نحو 65).