يتسلّم الدكتور محمد مصطفى المكلّف بتشكيل الحكومة الفلسطينية الـ19 منذ إنشاء السلطة الوطنية إرثًا ماليًا ثقيلًا هو الأصعب على الإطلاق. فالمديونيّة العامة باتت تزيد عن 30 مليار شيقل أي نحو تسعة مليارات دولار (قبل أحداث أكتوبر وبدء الحرب)، لكنّها زادت إلى أكثر من 35 مليار شيقل خلال الأشهر الأخيرة في ظل تراجع الايرادات العامة بسبب تباطؤ الدورة الاقتصادية، واستمرار سلطات الاحتلال في اقتطاع أموال المقاصّة، وهي الإيراد الرئيس للسلطة الفلسطينية، وتشكّل نحو 65 في المئة من مجمل الإيرادات، وكذلك بعد لجوء الحكومة إلى زيادة حجم الاقتراض.
يتسلّم محمد مصطفى المكلف بتشكيل الحكومة الفلسطينية الـ19 منذ إنشاء السلطة الوطنية إرثا ماليًا ثقيلًا
الخزينة العامة للسلطة الوطنية منذ إنشائها تقوم على ثلاثة مصادر إيرادات رئيسة؛ المصدر الأول هو ضريبة المقاصّة (وهي مجموعة من الضرائب تفرض أساسًا على البضائع المستوردة مثل ضريبتي القيمة المضافة والمحروقات) وهذه تقوم "إسرائيل" بجبايتها وفق بروتوكول باريس الاقتصادي نظير نسبة 3 في المئة، وظلت على الدوام أداة ابتزاز سياسي وسلاحًا تستخدمه "إسرائيل" للضغط على السلطة.
المصدر الثاني هو الإيرادات المحلية مثل الضرائب والرسوم الخدمية مثل رسوم السير والمواصلات وضريبة الأملاك والدخل وهي لا تشكل أكثر من 30 في المئة بأفضل الأحوال.
ويشكّل المصدر الثالث نحو 15-20 في المئة، ويتمثّل في المساعدات والمنح الخارجية، وهذه الأخيرة بدأت بالتراجع منذ 2013 من نحو مليار دولار سنويًا إلى أقل من 500 مليون دولار، ومن ثم وصلت إلى ما دون 200 مليون دولار منذ عرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صفقة القرن عام 2020.
ورغم بوادر تراجع المساعدات الخارجية منذ عام 2013، ثم وصولها إلى حدودها الدنيا مع تسلّم محمد اشتية رئاسة الوزراء في عام 2019، غير أن الحكومة الفلسطينية السابقة استمرت في زيادة حجم الإنفاق لتبلغ الموازنة العامة من 5 مليارات دولار بالمتوسط لتصل إلى 6.2 مليار دولار في ظل موازنة الطوارئ التي أعلنت عنها حكومة اشتية في آخر عام. ويعود سبب زيادة النفقات إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
- أولًا: عقد اتفاقيات بين الحكومة والنقابات أدّت إلى "زيادة" في أجور العاملين في قطاع الصحة والتعليم تحديدًا.
- ثانيًا: إعادة حكومة اشتية لرواتب وعلاوات خاصة بموظفي قطاع غزة في ظل الحديث -في فترة ما- عن احتمالية إجراء انتخابات عامة.
- ثالثًا: توظيفات وترقيات وإبرام عقود سواء على بند "المياومة" أو على بند التعيين أو بند "الاستشارة".
ورغم أن البند الرئيس في الإيرادات العامة أي ضريبة المقاصة شهد ارتفاعًا كبيرًا خلال نحو 10 سنوات، أي من نحو 500 مليون شيقل شهريًا إلى نحو مليار شيقل شهريًا، غير أن هذا النمو لم يترك أثرًا إيجابيًا في ظل زيادة النفقات وتحديدًا في فاتورة الرواتب التي زادت بنسبة تصل إلى 75 في المئة من عام 2013 وبنحو 29 في المئة منذ عام 2019.
وبالمحصّلة، فإن ثلاثة عوامل رئيسة قادت إلى الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها السلطة الفلسطينية: الأول تجفيف المساعدات الخارجية، والثاني هو زيادة فاتورة الأجور على نحو "غير مبرر" رغم مطالبات المانحين بتخفيضها، والثالث هو الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة والتي زادت عن 4 مليارات شيقل تراكميًا منذ عام 2019، أي منذ بدء الحكومة الاسرائيلية باقتطاع أموال صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى.
الحكومة الجديدة برئاسة محمد مصطفى أمام طريق وعر بكل معنى الكلمة لإدارة خزينة عامة "مفلسة"
لم يعد خافيًا على أحد أن الاقتراض المحلي بات خيارًا معدمًا تمامًا في ظل منح الحكومة مؤخرًا قرضًا مجمعًا بلغت قيمته (388) مليون دولار ليصل حجم ديون الحكومة لصالح البنوك المحلية نحو 2.5 مليار دولار ارتفاعًا من 2.1 مليار دولار.
ولذلك فإن الحكومة الجديدة برئاسة محمد مصطفى أمام طريق وعر بكل معنى الكلمة لإدارة خزينة عامة "مفلسة"، وخياراتها محدودة بما يلي:
- أولًا: زيادة الإيرادات من خلال توسعة قاعدة الاستيراد والاستهلاك لإحداث نمو إضافي في ضريبة المقاصة وهذا خيار وصل إلى مداه الأقصى، لذلك لا يمكن الحديث عن هذا الخيار في ظل تباطؤ الدورة الاقتصادية وفي ظل نقص السيولة في الأسواق الفلسطينية.
- ثانيًا: تجنيد الدعم الأجنبي سواء من دول عربية أو غربية وصولًا إلى مبالغ ما قبل عام 2013 أي وصول مساعدات لا تقل عن مليار دولار سنويًا، وهو أمر يبدو بعيدًا على الأقل في المدى المنظور، ومرهون بحلول سياسية ربما تحتاج إلى وقت طويل.
- ثالثاً: تعظيم الايرادات من الضرائب والرسوم المحلية، وهو أمر يبقى واردًا سواء من حيث زيادة قيمة ضرائب قائمة أو من خلال توسيع أفقي للقاعدة الضريبية، لكنه يظل خيارًا صعبًا كذلك في ظل المعطيات الاقتصادية القائمة في فلسطين (ارتفاع مستويات الفقر والبطالة وتراجع أرباح الشركات بسبب تداعيات العدوان على قطاع غزة) وفي ظل كذلك عدم سيطرة السلطة الفلسطينية على مناطق (ج) والمعابر.
- رابعًا: تنقية فاتورة الرواتب وتقليصها (تشكّل نحو 80 في المئة من مجمل النفقات العامة)، والحديث هنا ليس عن تخفيضات محدودة، بل تقليص يقود على مراحل إلى أن تصبح فاتورة الرواتب تشكل 50-60 في المئة فقط من إجمالي النفقات العامة، وهذا الخيار يعني بالضرورة إما إحالات بالجملة إلى التقاعد أو العمل على فتح بعض البنود مثل المواصلات بين المحافظات وبعض العلاوات.
إصلاح فاتورة الرواتب" ووقف التعيينات وإحالات إلى التقاعد، وربما تقليل بعض النفقات التشغيلية، قد تكون أكثر الخيارات "واقعية"
إصلاح فاتورة الرواتب" ووقف التعيينات وإحالات إلى التقاعد، وربما تقليل بعض النفقات التشغيلية، قد تكون أكثر الخيارات "واقعية" في ظل الحكومة الجديدة، وهي خيارات رغم صعوبتها ومرارتها غير أنها تلبي مطلب المانحين وحتى بعض المؤسسات الرقابية محليًا، وتقلل النزيف في الخزينة العامة، مع عدم استبعاد فتح آفاق لتجنيد دعم خارجي، لكن ذلك مرهون بحلٍّ سياسيٍ لا يبدو قريبًا في هذه المرحلة، مع الإشارة إلى أن هذه الخطوات فيما لو اتخذت ستقود إلى تخفيف وطأة الأزمة المالية وليس حلها على الأقل في المدى المنظور.