20-مايو-2024
الأنقاض في غزة

قصص مروّعة لأولئك الذين علقوا تحت الأنقاض جرّاء القصف الإسرائيلي

تخيّل أن تخرج من بين أنقاض منزلك المدمّر، تُلملم بقايا أجساد ذويك، وأنت تلفظ أنفاس النجاة، أو أن تُراقب أقدام المسعفين من فوقك وأنت منزوع القدرة على الاستغاثة، أو أن تصرخ بأسماء أهلك من وسط الغبار بلا إجابة، أو أن تدفن أخيك الشهيد بعدما جاءك خبره في القبر الذي أعددته لزوجتك الشهيدة. تخيّل أن تكون جالسًا فتجد "جيبًا" بلا سائقٍ يقتحم منزلك، أو أن تبحث عن المفقودين فلا تُصادف سوى بضع أصابع تُمسك بالطحين!

بحث نازح عن جثامين 15 مفقودًا من عائلته تحت الأنقاض، استمر في ذلك لشهر كامل حتى أصابه الإرهاق النفسي والجسدي 

هذا ليس خيالًا ولا مشهدًا في أحد أفلام الرعب، هذا ما يؤكده الحاج محمد الزيتونية (60 عامًا) الذي نجا بأعجوبةٍ من الموت بعد أن دمّرت الطائرات الإسرائيلية منزله في حي الدرج بمدينة غزة، في غارةٍ راح ضحيتها 50 شهيدًا من عائلته وجيرانه، وتدمير 3 منازل كليًا، و25 بصورة جزئيّة.

الحاج محمد الزيتونية من أمام منزله المدمّر
الحاج محمد الزيتونية من أمام منزله المدمّر
منزل عائلة محمد حمدي
منزل عائلة محمد الزيتونية ومحيطه

مكث محمد حمدي الزيتونية (4 ساعات) تحت الركام، وقد أصابه غباش الرؤية، وهو يراقب أقدام الناس من إحدى الثغرات وهم يحاولون إنقاذه، كما كان يسمع رنين هاتفه الذي كان بقربه خلال محاولة أحد أصدقائه الوصول إليه.

لا يُجيد سوى التنفس

لم يستطع الستينيّ محمد حمدي الصراخ ولا الحراك رغم أنه على قيد الوعي، كما أنه لم يشعر بما حدث ولا تسيطرُ على فكره سوى بضع استفسارات، مفادها: "شو اللي صار؟ وكيف؟ مين عايش؟ ومين استشهد؟"، إلى أن استسلم لظنّه بأن الاحتلال نفّذ مقترحًا يقضي بإلقاء قنبلة نووية على غزة.

وأوضح محمد أن صديقًا له أخذ يتتبّع صوت الهاتف حتى استدلّ على مكانه، فوجد زوجته الأولى "أم حمدي" في حالة غيبوبة بعد الإصابة، فأنقذها، في الوقت الذي أخرج فيه الجيران إخوة محمد وعائلاتهم وأقاربهم أشلاء من تحت الركام، ودفن جلّ الشهداء في أرضٍ قريبةٍ من المنزل دون أن يُلقي عليهم نظرة الوداع.

منزل الحاج محمد الزيتونية ومحيطه
منزل الحاج محمد الزيتونية ومحيطه

في هذه الأثناء استمر صديق محمد بالبحث والاتصال، وهو يردد: "قلبي حاسسني إنه طيب"، حتى وجده وقد أصابه الإغماء، فأسعفه، ثمّ التمّ حوله الجميع لمواساته. وهنا يقول محمد: "في لحظتها كنت في ألم وأمل إني ألاقي حد عايش ولو مصاب"، وهو لا يُدرك أن بعض جيرانه قرأوا عليه فاتحة الشهادة.

لوحة الشهداء من عائلة الزيتونية
لوحة شهداء عائلة الزيتونية التي دونها الحاج محمد الزيتونية على ما تبقى من أثاث منزله.

وأشار محمد إلى أنه ومنذ أن بدأ يتعافى أخذ يبحث عن جثمان 15 مفقودًا من عائلته تحت الأنقاض، ليستمر ذلك شهرًا كاملًا حتى أصابه الإرهاق النفسي والجسدي، وفي ذلك يقول محمد: "كنت بس أرفع الحجارة وألاقي أصابع أفرح على أمل أن يكون في ناس عايشة، ولكن بكل مرة ما كنت ألاقي غير إيد ماسكة طُشت العجين أو قطع من الأجساد"، مضيفًا: "احنا عايشين في كابوس ورعب مستمرين.. إحنا عايشين بين القبور".

دفنت والدها بيديها

"وراء كل شهيد حكاية وحبيب يروي تفاصيلها" بهذه الكلمات ابتدأت ميساء حرز (24 عامًا) سردها حكاية صاروخ إسرائيلي استهدف منزلهم، ليهدم كل ما هو جميل ويفكّك أفراد عائلتها ما بين شهيدٍ وجريح.

أمّا عن تصرفها لحظة الاستهداف، فقد أوضحت ميساء التي درست التمريض، أنها نفضت الركام والغبار الذي سقط عليها تمام العاشرة إلا رُبع صباح أحد أيام شهر آذار/ مارس الماضي، وعزمت على الاطمئنان على حياة أهلها بفحص الوعي والاستجابة، لتجد والدتها غارقةً في بركةٍ من الدم نتيجة نزيف أصاب قدمها، فاستغلت ما تعلمته لوقفه.

ونوّهت ميساء إلى أنها تركت والدتها لتتنقّل بجولة بحثٍ سريعة عن بقية أفراد العائلة، ووجدت أختها ملك (18 عامًا)، ولم يظهر منها سوى رأسها، فصرخت ميساء باسمها ابتغاء الاطمئنان في لحظة خوف، لترُد ملك: "قاعدة بموت يا ميساء".

ميساء حرز
ميساء حرز

اطمأنت ميساء أن ملك على قيد الوعي فانصرفت لتلمح أختها طاعة (27 عامًا)، فنادت: "سمعاني يا طاعة؟!"، ولكن دون إجابة، فطلبت منها ميساء تحريك رموشها إن كانت تسمعها، وما إن فعلت أكملت مسيرتها نحو أختها رنين (25 عامًا)، ووجدتها ملقاةً على الأرض، وهي تصرخ: "مش قادرة أتحرك وبردانة".

 وهنا عادت ميساء لترفع الركام عن أختها ملك، وهي تستغيث بالجيران، الذين تمكّنوا من نقل أختها طاعة إلى أحد المراكز الطبية القريبة.

وأكدت ميساء أنها انتزعت والدتها من بين الركام واحتضنتها، ونزلت بها إلى الطابق السفلي للمنزل حيث وقع الانفجار، غير آبهة بألمها حتى تمكّنت من إيصالها للجيران الذين نقلوها إلى مستشفى المعمداني رفقة ابنتها رنين.

جمعت ميساء جميع أشلاء والدها، حتى التي صغُرَ منها لدفنها كي لا تنهشها الكلاب الضالة 

وشدّدت ميساء على أن عقلها في تلك اللحظات كان عالقًا بمن داخل المنزل، فعادت للبحث عن أبيها وأخيها اللذان كانا يجلسان في "حاصل البيت" قبيل الاستهداف لتنادي "بابا سامعني؟!"، ولكن هذه المرة دون استجابة ليقطع عم ميساء صوتها بمناداته لها، منوهًا لوجوب الإخلاء خشية تكرار الاستهداف.

منزل عائلة ميساء حرز بعد القصف الإسرائيلي
منزل عائلة ميساء حرز بعد القصف الإسرائيلي

وهنا تقول: "طلعت من البيت لأنه ما كان في استجابة فلقيت غطاء والدي على الأرض، والناس حواليه وجوههم باهتة"، موضحةً أن هذه الملامح هي من دفعتها لإزالة الغطاء فإذا بيد والدها ومسبحته، أما بقية الجسد فقد تقطّع، وهنا استرجعت ميساء صدى صوت والدها الذي كان ينعتها دومًا بالقوية وصاحبة المسؤولية.

وفي ذات الوقت، طلبت ميساء بإصرار نظرة وداعٍ أخيرة، ورغم رفض عمّها لذلك أمام صعوبة المشهد إلا أنها فعلت، لتُصدم بوجود يدٍ ناعمة تحت ذات الغطاء، فصرخت "هاي ايد عبود يا عمي!"، فأخبرها باستشهاده رغم محاولته إخفاء ذلك في تلك اللحظة أمام هول المصاب، فما كان من ميساء إلا إطالة نظرة الوداع.

منزل عائلة ميساء حرز بعد القصف الإسرائيلي
منزل عائلة ميساء حرز بعد القصف الإسرائيلي

وأوضحت ميساء، التي لم تكن تشعر بإصابتها، أنها شاركت في صلاة الجنازة ودفنت والدها وأخيها بيديها، مستهجنةً القوة التي غشيتها في تلك اللحظة، كما نوّهت أنها جمعت قطعًا من اللحم بحجم عقد الإصبع، ودفنتهم خشية أن تكون خيارًا لنهش الكلاب.

تصمتُ ميساء، ثم تقول: "حتى حقنا في الحزن ما عشناه"، موضحةً أنها كانت على موعدٍ مع رحلة بين المشافي بعد الدفن؛ لمتابعة حالة أختها طاعة التي مزقت الشظايا رقبتها وبطنها كما أُصيب فكّيها بالكسر، ورنين التي أُصيبت بجروحٍ وكسورٍ في مناطق متفرقة بالجسم، ووالدتها التي احتاجت لعلمية جراحية في قدمها المصابة لزراعة "البلاتين".

غادرت ميساء المشفى بعد الاطمئنان على العائلة ابتغاء الاغتسال من رائحة الدم والركام والموت العالقة بها، لتكتشف حينها جروحًا لم تنتبه إليها، وهو ما دفعها لأن تعالج نفسها بنفسها كي تعود إلى المستوصف الذي تمكث فيه طاعة، لا سيما وأن إصابتها كانت الأخطر.

حفر نازح قبرًا لزوجته، ولكن جاءه خبر استشهاد أخيه فدفنه فيه بدلًا عنها

 جلست ميساء إلى جانب أختها طاعة التي كانت تُتمتم بكلامٍ غير مفهوم، وراقبتها وهي تُغمّض عينيها وكل الظن بأنها نامت مع التعب، ليتزامن ذلك مع مرور أحد الأطباء الذي قاس نبضها وأعلن استشهادها.

تقول ميساء: "في وقتها كنت حاسة إنه حيُغمى عليّ"، موضحةً أنها تمالكت نفسها أمام مسؤوليتها في التماسك وإظهار القوة، كما شدّدت على أن العدوان لم يزيدها إلا إصرارًا على إكمال مسار الحياة، قائلة: "أنا ما بدّي أي إنسان يعيش اللي عشته لهيك طول ما فيّ نبض راح أعطي على قدر المسؤولية".

صدمات متتالية

أما عن حسام صبحي (45 عامًا)، الذي خرج من بين أنقاض منزله، بعد أن وقع عليه جدار غرفته الذي شكّل رأس هرم بينما سقط بعض الركام على قدميه، ليزيلها وينهض ليتفقّد عائلته التي نزحت إلى منزل عمّه المكوّن من 3 طوابق، ووجد زوجته مدفونةً بالركام وقد برزت عليها ملامح الموت الأكيدة، كما وجد ابنته واثنين من أبنائه بلا نبضٍ يدل على احتمالية الحياة.

وأوضح حسام أنه أشعل مصباح هاتفه الذي كان بالقرب منه ليُضيء عتمتيّ الليل والقصف، وأخذ يسير بين الركام إلى أن استمع لصوت أنفاس أحدهم، فإذا بابنيه يوسف وعبد الله على قيد الحياة، فأزال عنهما الردم بيديه المغبّرتين، والمحفوفتين بالأذى وقدّم لهما الإسعافات الأولية، ليلمح بعدها أخيه بسام حيًا لكنه ينزف.

وهنا ربط حسام جرح أخيه، ثم لملم نفسه، ونقله إلى منزله، وأخذ يطبّب جراحه، وهو الذي لم يتجرأ يومًا على الإسعاف، ثم جلب له إحدى معارفه الأطباء، وعالجه حتى نطق واسترجع وعيه.

ترفض أم شهداء  فكرة الدخول إلى غرفة ابنتيها التي تزينها ذكرياتهنّ وصورهنّ

وفي اليوم السابع لاستهداف المنزل ذهب حسام لاستخراج جثامين أبنائه وزوجته التي أحضر لها الكفن، فأبت الأقدار إلا أن يكون هذا الكفن نصيب أخيه بسام، حين جاء أحد أبنائه يحمل له نبأ استشهاده، فأصابته الصدمة ثمّ استرجع ودفن أخيه في الحفرة التي جهّزها لزوجته.

وتوالت الصدمات على حسام الذي فقد والده ووالدته وأخًا له في قصفٍ استهدف منزل عائلته، ليتفرق من فيه بين شهيدٍ وجريح.

الطفلة فرح بسام، رحلت شهيدة بعد 15 عامًا من انتظار قدومها
الطفلة فرح بسام، رحلت شهيدة بعد 15 عامًا من انتظار قدومها

وتجتاحه مشاعر الوحدة كلّما روى حكاية الفقد المتبوعة بالفراق، فلقد توزعت العائلة بين البلاد، ما بين أبناء جرحى، وهاربين من الموت بعد الفقد؛ ليتحمّل حسام مسؤولية أبنائه التي ضاعف العدوان من ثقلها في ظل صعوبة الوضع العام وشمولية الخسارة.

نومٌ أبدي

 أمّا فراس عطا الله الذي يُخيّم عليه الصمت، وتُقيّده قسوة الفراق التي انتزعت منه والديه وإخوته جميعًا وأبقته حبيس الحزن، تحدثت عنه عمّته فريال، وأخذت على عاتقها رعايته بعدما شاركته شعور النجاة، وقاسمته النزوح في بيت عائلتها في حي الدرج شمال قطاع غزة.

تقول فريال: "كنت نازحة عند أهلي، وفي واحدة من الليالي، صُدمت بقصف مجنون لمنزل الجيران بينما كنّا نتجهّز للنوم أنا وبناتي وأمي وأختي وعائلة شقيقي، فانهارت الدار بالكامل. 

وأوضحت فريال أن  فراس أصيب في رأسه وغاب عن الوعي، بينما ظلّت هي على قيد الحياة والأمل ترقب النجاة من حولها، وتصرخ بأسماء بناتها بعدما لمحت سقوط أحد الجدران عليهن، وهي تشعر "بأنها مقيّدة". تقول فريال: "لمّا ما سمعت لا صوت ولا نفس عرفت إنه بناتي وأمي ماتوا".

أنقاض

لم تستسلم فريال التي غطّى نصف جسدها الركام، ونادت على أختها وأخيها وأبنائه على أمل الاستجابة لتُدركَ بذلك وقوع المصيبة، وتحقّق الموت، إلى أن قدمَ أحد المسعفين من الجيران، وأخرجها من تحت الركام، قائلًا: "إمك وإخواتك في الجنة"، ثمّ انتقلَ لإنقاذ فراس في ظل انعدام قدرة سيارات الإسعاف على الوصول إليهم، كما تفقّد من تبّقى من سكان المنزل الذي كان يعجّ بالنازحين.

تعزم فريال على احتضان ابن أخيها، الذي كان يرافق والده طوال فترة العدوان في نقل الماء وجلب الحطب والاعتناء في الأرض بشكلٍ يومي، كما أنها تفتقد ابنتيها وترفض فكرة الدخول إلى غرفتهنّ التي تزينها ذكرياتهنّ وصورهنّ. 

أما عن بركة الراعي، فقد صُعقت باقتحام "جيب" الجيران لصالون منزلها دون سائق، وتوالت بعدها سقوط الحجارة وتراكم الردم في المنزل بلا إنذارٍ مسبق أو شعورٍ بقرب القصف.

سألت بركة ابنتها إسلام: "أنتِ بخير؟!"؛ فردت إسلام بالإيجاب ثمّ انقطع صوتها أثناء الحديث أمام  كثافة الغبار، وفقدانها للوعي، في ظل محاولة أمها التحدّث إليها ابتغاء الطمأنينة

 تحاصرت "بركة" بالردم، كما أغلق "الجيب" مدخل منزلها الذي غطاه الغبار، وهي لا تدري ما الذي يحصل إلى أن تذكّرت ابنتها إسلام التي كانت تحاول استراق بعض الهواء على سطح المنزل، فأخذت تناديها فإذا بها ترد وهي تركض نزولًا على سلالم درج المنزل "أيوا يمّا قصفوا الجيران".

سألت بركة ابنتها إسلام: "أنتِ بخير؟!"؛ فردت إسلام بالإيجاب ثمّ انقطع صوتها أثناء الحديث أمام  كثافة الغبار، وفقدانها للوعي، في ظل محاولة أمها التحدّث إليها ابتغاء الطمأنينة، الأمر الذي أشعل النار في جسدي بركة للخروج من بين الركام بحثًا عن النجاة من جهة، وإسعافًا لابنتها من جهةٍ أخرى، فأخذت تُعلن وجودها رغم معاناتها من آلامٍ في الظهر، وهي تنادي: "أنا هنا يا ناس، أنا هنا يا جماعة" طلبًا للمساعدة.

في هذه الأثناء وصل إخوة "بركة" في إلى منزلها بعدما علموا بالقصف، وبينما حاول أحدهم الدخول للمنزل من أسفل "الجيب" ابتغاء الإنقاذ، كانت تبحث بركة عن أيه ثغرةٍ للهروب حتى قررت الخروج من فوهةٍ في المطبخ هي الأقرب إلى النافذة؛ باعتبارها المكان الوحيد الذي نجا من بشاعة الدمار.

تشبّثت بركة ببقايا رخام المطبخ، وخرجت من النافذة بمساعدة أخويها من الداخل والخارج، لتبدأ رحلة البحث عن ابنتها إسلام، التي وجدتها ملقاةً على إحدى الدرجات، وقد تمكّن منها الإغماء بعدما أُصيب كتفها بركام المنزل، وعلمت أن جيراها فقدوا 15 شخصًا.