07-مارس-2018

نبذته القبيلة، أسمتهُ الغيابُ، وكان يعرفُ ما سيحصلُ للمسمَّى بالغيابِ حينَ يحينُ الأجلُ القريبُ، وقرب منتصفِ الليلِ، كان يهوذا لا يزالُ يسودُ اللّيل، وكان حرّاسُ التوراةِ يدخلون المدينة، كانوا "اليَمام"، وكان هو لا يزالُ، قرباننا.

"من يكتبُ سيرة الغائب الحاضر؟"

هذا سؤال المغلوبِ أبدَ الدّهر، "من يكتبُ سيرة الذين لا سيرة لهُم؟"، وعندما يحينُ الأوان، نتطلّع حولنا بدهشة. وعندما حان الأوان قبل عامٍ من الآن، وقبل عدّة أسابيعٍ من الآن، كنت لا أزالُ أختبرُ دهشة الموت ولغزه المُحيّر، عالِمًا: أنّ أحدًا منهم لن يفتح النعش المغطّى بالبنفسج، "ليُخبرنا بالحقيقة.."، "ما الحقيقة؟"، عندما كانَ هُو، قد عرفَ الإجابة وحلّ ألغاز الأرض والحياة. كنت لا أزالُ أختبرُ دهشة الموت، عندما كانَ هو يجتازُها، لحظةً لحظة، حتى عبرَ إلى الماوراء، إلى الحقيقة، مهما تكُن، وتركنا نحنُ أهل الأرض، أهلُ الحياة، لسؤالِنا الأزليّ عن الحقيقة.

   كانَ هُو قد عرفَ الإجابة وحلّ ألغاز الأرض والحياة. وكنت لا أزالُ أختبرُ دهشة الموت..   

وقال أرحلُ، أرحلُ في سبيلِي مدركًا موتي المُؤجَّل، ومستعدًا للنسيان، وللغياب. لِي، صُوفُ أمِّي الذي لم تكمِل حياكته، ولِي، أسماءُ طفولتي، ولِي، مجازٌ أرضيّ، فيه أستعيدُ الحقيقة وأعيدُ دراستها، وأكمل حياكة صوف أمّي، أصنعُ منهُ كفَني، وأرحلُ، مدركًا موتي المؤجّل ومستعدًّا للنسيان، وفي مجازِي الأرضيُ أنثرُ أسماء طفُولتي، علَّها تستعيدُني عندما يأتي الشتاء مرةً أخرى وأخرى. علَّني أستعيدُها، عندما أعودُ إلى المكانِ مرةً أخرى وأخرى، وعلَّني لا أُنسى بعد حين.

في مديح الثُنائيات؛ إذ تجتمعُ في جسدِه الهزيلِ، تألفهُ ويألَفُها، تحاورهُ يحاورُها، تؤلِّفُها يُؤلِّفها، تصنعهُ ويَصنعُها، تجعلهُ مجازًا ويجعلُها استعارة: أنا المعافى الآن من كلّ شيء يقول، أنا المعافَى من أسئلَة الوجود المُستحيلة الإجابة، والمُعافى من البداية والنهاية، والمُعافى من لغة الأحياء؛ هي قيدهُم اللغويُّ، ومَديحُ رسالَتي لهُمُ، هِي نبيذُ عقولهم، وهِي خمرِي الذي لا يُسكرُني.

   في زمنٍ قادم، علَّنا نذكرُ زمننا هذا: كان زمن الشُجعان، كان زمنَ الخذلان، كانَ زمَنًا قبيحًا وكان زمنًا جميلًا   

في زمنٍ قادم، علَّنا نذكرُ زمننا هذا. ولنكتب عنه ما يلي: كانَ زمَن الخيولِ السوداء، كان زمن السقوطِ عن سكة القطار، كان زمنُ يهوذا الإسخريوطيّ يعودُ من بعدِ النفيِ إلى أرضِ ميلادهِ، كانَ زمنَ المَسيحِ المصلوبِ مرةً أخرى، يتناسخُ في أرواحِ أولئك الذين يصعدون وحيدين قرابين نحو السماء، كان زمن الشُجعانِ، كان زمنَ الخذلانِ، كانَ زمَنًا قبيحًا وكان زمنًا جميلًا، كانَ زمنَ يهوذا إذ يعودُ إلى أرضِ ميلادهِ ليُرشدَ "اليَمامِ" إلى المسيحِ مرةً أخرى وأخرى وأخرى.

في مديح الغائبِ الدّائم الحضور؛ باسل، حمزة، أحمد، محمد... كأنهُم روحٌ واحدة، لا شيءَ يوجعُها سوى الأنفاس الأخيرة، تلفَظُ ثمّ يكون سلامًا وبردًا. ويعود يهوذا مرة أخرى باحثًا عن مسيح آخرٍ. يجوس في الأرضِ، كأنَّها مدنّسة لا مقدّسة، كأنّه سيِّدٌ لا منفيّ، ولا يلبثُ ينبعثُ مسيحٌ آخر وآخرٌ. خفيٌ كأنّه بادٍ للعيانِ، لا يلبثُ يبعثُ الدهشة فينا بين حين وحين.

كلَّما قاربتُ كتابة التفاصيل، ازدادت كتابتها عبثًا وغرقت أكثر في غياهبِ الجبِّ. كان ليلًا، أجل، كان مخزن الذخيرة فارغًا بعد حين، كان هناك علِّية ضيّقة، وكان هناك بيتٌ مهجورٌ قديمٌ على أطراف المدينة؛ أتذكُّر: "نبذتهُ القبيلة ورمته المدينة بالحصى، وراح يسيرُ في الليل، في الخفاء، باحثًا عن مدينة أخرى، لم يستطع الذهاب إلى الجليل، فلأنَّها محتلّة، كانت أرضًا حرامًا، فعاد إلى أطراف مدينته، هناك، كانت "اليمامُ" مرةً أخرى، يصحبُها "يهوذا" مرة أخرى، في انتظاره، وكان على موعدٍ مع موتهِ.."، وأعود إلى التفاصيل مرةً أخرى، كانت زقاق المخيّم، وكان هناك طفلةٌ، حملَها وأرجعها حيثُ تستطيع أن تحيا وعاد مرةً أخرى، وكانوا تسعة، أو عشرة، أو أربعين، وكان واحدًا، ثمّ واحدًا، ثمّ واحدًا، كان دائمًا وأبدًا واحدًا، وكان جنودُ روما/ حُرّاس التوراةِ دائمًا تسعة أو عشرة أو أربعين، وكانت رام الله حينًا، جنين حينًا، صوريفُ حينًا آخر، جنينُ تارةً أخرى، جنينُ الآن، جنينُ بالأمس، جنينُ عام 2002، وجنينُ في الغد.

   يا "ظريفَ الطُّولِ"، ستبقى وحدك عاليًا، بعيدًا، غريبًا ما استطعت  

كانوا يتذاكرون حكاياتهم، يحكونها لبعضهم بعد موتهم، ويتناقلونها، يعيدون تمثيلها، مرةً ومرّتين وأبدًا، وكانوا ينامون في البردِ، بعد موتهم، في ثلاجةِ المَوتَى حيثُ لا يشعرُ بالبردِ أحدٌ سوى الأحياء فيها، هناك، بجانبِ بعضهم، ربَّما اختلطَ الدّم المسفوك ببعضهِ فصار دمًا واحدًا، وربَّما، اختلطَت الحكاياتُ حتى صارت حكاية واحدة.. سيأتي زمَانٌ تختلطُ فيه الحكايات، ويَحكي أحدُ السّامعين، حكاية الأربعة، الخمسة، المئة، كحكاية واحدة، تبدأ منذُ الأزَل، وتظلُّ إلى الأبد، قد يسمِّيها السامعُ حكاية المسيح المصلوب، وقد يُسمِّيها، حكاية ظريفِ الطُّول، وقد يُسمِّيها حكاية باسل الأعرج، أو محمّد الفقيه، أو أحمد نصر جرار.. لا فرق، فالشُّهداء سواسيُّة في الذاكرة، وفي عمليات تخليدِ الذاكرة، قد يبدُو الاسمُ ثقيلًا على اللَّفظِ الجماعيّ، ويبقَى الفِعلُ وعيًا جماعيًا يسري في الجماعة، فيتناسخُ الشهداء أرواحهم، ذاكرتهم، حكايتهم.. والآن، "من يكتبُ سيرة الذين لا سيرة لهم؟ من يكتبُ سيرة الحاضر الغائب؟ من يكتبُ مديح الغائبِ الحاضر؟"

ليسَ هناك من يستطيعُ الكتابة، ولا هنالك من يستطيعُ رواية الحكاية. لَم يكتُب سيرَة الفقِيهِ الغائبِ الحاضر، سوى باسل الأعرج، ولم يكتب سيرة الأعرج الغائب الحاضر سوى أحمد نصر جرَّار، ولن يَكتُبَ سيرة جرَّار الغائب الحاضر سِوى آخرون يشبهونهُ ويشبههم، هم بعضهُ وهو بعضهُم، وهُم نسلهُ وهو نسلهُم.

"وكُن أيقونةً للحائرين/ وزينةً للساهرين/ وكن شهيدًا.. شاهدًا/ طلقَ المُحيَّا

ولتَبقَ وحدَكَ عالِيًا/ لا يلمَسُ الزَّمنُ الثَّقيلُ مجالكَ الحيويَّ/

فاصعَد ما استطعت/ فأنت أجملُنا شهيدًا.."، محمود درويش؛ القُربان.

وأرجعُ إلى الزمن مرةً أخرى، وهمُ الذين كانوا خارج الزّمن دائمًا، لا يلمَسُ لا الزَّمن الثقيلُ مجالهُم الحيويُّ، ولا شيء آخر. وليُقَل بعد حين: كانَ زمَنُ الخارج عن الزمن، الصاعد نحو المذبح الحجري، الحاملُ عبء القيامة، الخارجُ من البنفسج، اللامنتمِي لواقعِنا الثَّقيلُ الوطئِ، الوحيدُ/ البعيدُ/ الغريبُ/ المُسمّى بالغيابِ في أرضِ الغنائيين المقفرة من الغِناء والتي تعجُّ بالنسيانِ السّريع للأسماءِ والشهداء.

يا "ظريفَ الطُّولِ"، ستبقى وحدك عاليًا، بعيدًا، غريبًا ما استطعت. ولن تفتح أبدًا النعش المغطى بالبنفسج، لن تخرج من ثلاجة الموتى حتى تحدّثنا بما شهدتَ وكيف استطعت حلّ لغز الأرض. ستبقى شَفيع نفسكْ وشفيع من يأتون بعدك في كل الأزمنة. 


اقرأ/ي أيضًا:

خطاب باسل الأعرج الأخير

فلسطين ترثي الباسل

بدّك تصير عسكري؟

دلالات: