كان يقف على مسافة بعيدة عنهم، يتقدّم خطوة ويتراجع خطوتين، ينظر إلى كرة القدم تتنقّل بين أقدامهم دون أن يقدر على مشاركتهم لعبته المفضّلة، يشيح بنظره إلى البرج العسكري الجاثم على أراضي القرية ويتحسّس رأسه، ليعود بذاكرته إلى تلك اللحظة التي اخترقت فيها الرصاصة وجهه وسقط مغشيًا عليه.
قبل نحو شهرين، اندلعت مواجهات بين الشبان وجنود الاحتلال في قرية "النبي صالح" شمال غرب رام الله، فيما كان الطفل محمد التميمي (15 عامًا) يعلب كرة القدم مع أصدقائه، وعلى الجهة الأخرى حيث يفصل بينهما جدار اسمنتيّ، يتربّص بداخله جندي إسرائيلي للشبان.
لم يكتف الاحتلال بحبسه بتلك الرصاصة، فعاد الجنود فجر اليوم، واعتقلوه من بين عائلته، ومن أمل ظل ينتظره، حدث ذلك قبل أسبوع من عمليّته الجراحية
بعد أن توقف إطلاق النار، أراد محمد أن يتأكد من انسحاب جنود الاحتلال، فصعد على سلم مثبّت على جدار أحد المنازل، وما إن أطلّ برأسه حتى رأى جنديًا قال له بالعربية: "انزل مش رح أطخ"، إلا أن محمد عاد أدراجه، وبعد دقائق قليلة صعد مجددًا وما أن وصل نهاية الجدار حتى أصبح في مرمى الجندي، فأطلق عليه رصاصة مطاطيّة من مسافة قصيرة، فأصابت وجهه.
اقرأ/ي أيضًا: الطفل أحمد: كنت أحكي بوضوح وأكتب بسرعة!
نزف محمد الطفل، كميّة كبيرة من الدماء قبل أن يصل المستشفى، احتاج وقتها أكثر من 6 وحدات من الدمّ، وخضع لعمليّة جراحية استغرقت 7 ساعات انتهت في الرابعة فجرًا، كان الأطباء يخرجون ويقولون لوالديه أنّ محمد فارق الحياة، وعاد لها، وأنّ هناك احتمالية بأن يصاب بالشلل.
خضع محمد لعملية قصّ في الجمجمة واستئصال شظايا العظام المتهتّك وإغلاق الجرح بواسطة عضلات الوجه المزامنة، إذ أن الرصاصة اخترقت منطقة الفكّ العلوي من جهة اليسار، وأصابت الجيوب الغربالية اليسرى، واستقرّت في الفص الصدغي الأيسر، وأدّت لتكسّر في الجدار المداري الأيسر وتهتّك في أنسجة الدماغ المحيطة.
كان تحدّث لـ "الترا فلسطين" عن أكثر الأشياء وجعًا: الوقوف ورؤية الأصدقاء يلعبون كرة القدم لا يُطاق، بينما أنا أتفرّج
وبعد أن خضع للمراقبة واستقرّت علاماته الحيوية، سمح الأطباء لمحمد بالخروج من المستشفى بعد 9 أيام من إصابته، على أن يلتزم بجملة من النصائح الطبية نظرًا لحساسيّة وضعه الصحيّ، إذ أن الدماغ قد يكون عُرضة للخطر لعدم وجود عظام تحميه في الجزء الأيسر من الرأس.
التزام المنزل، وعدم الجري والقفز، وتجنّب الانتقال في السيارة لمسافات بعيدة، وعدم الخروج في البرد الشديد والجو الحارّ، وأن يكون حذرًا في كلّ الممارسات التي تتعلّق برأسه من ارتداء الملابس، الاستحمام، الحلاقة، النوم.. كلّها نصائح يجب أن يتبعها محمد حتى يخضع لعملية جراحية لإعادة عظام الجمجمة، كان من المقرر إجراؤها في الثالث من آذار/ مارس المقبل، قبل أنّ يمنع الاحتلال ذلك، باعتقال محمد من قريته فجر اليوم الاثنين.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | إسرائيل وعائلة التميمي.. انتقام جماعي
الأطباء، كانوا نصحوا الطفل التميمي بتجنّب الأماكن المرتفعة، باعتبار أنّه قد يفقد توازنه ويقع أرضًا، ونصحوه بعدم الاختلاط بالناس، وعدم مصافحتهم وتقبيلهم، ليتجنّب الزكام وأعراضه من سعال وعطس، لأنّها تؤثّر على الدماغ.
أول مرة وقف فيها محمد أمام مرآة منزلهم، بعد إجرائه العملية الجراحية، هرب سريعًا، وكأنّه رأى شخصًا آخر، نظر لوالديه غير مدرك لما حصل معه، وتساءل عن سرّ التجويف في الجزء الأيسر من رأسه، ليخبره والداه بإصابته، وأنّ هذا سيكون وضعًا مؤقتًا حتى يخضع لعمليّة جراحية أخرى.
في الأيّام الأولى للعمليّة الجراحية التي تركت أثرًا عميقًا في نفسيّته، لم يُميّز محمد بين الأدوات والمصطلحات، وكان يخلط بين المسميات، كما كان يقوم بحركات لا إرادية، وهو ما أخبره الأطباء لوالديه مسبقًا، لكنّ تحسنًا ملحوظًا طرأ على حالته، تعزوه والدته لإرادته القوية وإصراره على العودة لحياته الطبيعيّة قبل الإصابة، فهو يراسل الطبيب ويطلب منه إجراء العملية سريعًا حتى يحضر زفاف شقيقه.
ظلّ محمد مواظبًا على تواجده على مقعده الدراسيّ رغم حالته الصحية، باستثناء الأيام الباردة والماطرة، امتثالًا لنصائح الطبيب، لكنّ عدم الخروج من المنزل هو الشيء الذي لم يستطع الالتزام به من بين تلك النصائح، فبين حين وآخر يتسلل خلسة إلى الخارج ليتنفّس بعض الهواء، وكلّما تفتقده والدته تخرج بحثًا عنه، للعودة به إلى المنزل، حرصًا على سلامته.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | سبأ.. استُشهد حتى لا يستشهد الأسرى
قُبيل اعتقاله فجر اليوم، كان تحدّث لـ "الترا فلسطين" عن أكثر الأشياء وجعًا، قال إنّ الوقوف ورؤية الأصدقاء يلعبون كرة القدم، لا يُطاق، بينما أنا أتفرّج.
أخبره الأطباء أنّه سيكون قادرًا على ممارسة حياته اليوميّة بشكل طبيعيّ بعد نحو أسبوعين من إجرائه العمليّة الجراحية لإعادة عظام الجمجمة، والتي كانت مقررة بعد نحو أسبوع. أمضى أيّامه الصعبة، متسلّحًا بهذا الأمر، وظلّ ينتظر، بشغف.
والد محمد، أخبرنا أنّ الجنود اقتادوا ابنه سيرًا على الأقدام إلى مركز التحقيق في "بنيامين"، ورفضوا مطالب الأهل بعدم اعتقاله كونه في وضع صحيّ حسّاس.
من بين الكلمات التي قالها محمد أيضًا، أثناء مقابلته "الترا فلسطين": الاحتلال أراد برصاصته تلك أن يقتلني، أو يشلّ حركتي، أو حتى يجعلني أسيرًا في منزلي ويحوّل أفراد عائلتي لسجانين يمنعونني من الخروج، لكن هذا لم يحدث، فكيف لي أن أملك مفتاح الحرية ولا استخدمه، تذوّقت مرارة الأسر لثلاثة أشهر وأدرك معنى أن تكون حرًا".
لم يكتف الاحتلال بحبسه بتلك الرصاصة، فعاد الجنود فجر اليوم، لانتزاعه من بين عائلته، ومن أمل ظل ينتظره، حدث ذلك قبل أسبوع من عمليّته الجراحية المُنتظرة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو | من مسافة صفر.. حجارة شاب تقهر جنود الاحتلال