03-ديسمبر-2018

لوحة فنيّة لرشا أبو زايد

لا شيء محرج أكثر من الاتهامات المتبادلة على تخوم الشتاء بين فريقين من الناس، الأول صامت على التواصل الاجتماعي حول هطول المطر، والآخر منفلش وهائج ودلوع يملأ الدنيا كتابات وانفعالات وكذبات بيضاء حول "شغف الغيمة، ولحن القطرة الأخير، وصخب الشبابيك، وبطولة الكستناء".

     نعيش فصلًا فلسطينيًا مُهمًا جدًا لا نعيره الاهتمام الكافي، ثمة قتال صامت ومعلومات كثيرة معتّم عليها   

الاتهامات بالادّعاء رهيبة، ولأني من كُتّاب التسعينات أكثر كلمة تخيفني هي الادّعاء، لأنني من جيل كان عدد من يكتبوا في ملاحق الصحف لا يزيد عن عشرين من كل فلسطين، كان الادّعاء عارًا صعبًا وما زال، الآن ومع اتساع جمهورية الكتابة والكُتّاب، خفّ ألم الاتهامات، ومن هذه الفسحة سأدخل لأكتب عن صديقي المطر.
  
كان يومًا لا يُنسى، عندما كنت لأعود ببنتي من الحضانة، على المدخل الشمالي لمدينة البيرة، وقرب فندق فاخر كانت تقف معلمة محجّبة تنتظر المركبات العمومية كي تصل إلى وسط البلد، وانهمر مطر متسرّع وعجول وغير أنيق، وشاهدنا أنا ويمام يد المعلمة تمتد في الهواء للسيارات ولا أحد يقف لها، فأسرعنا إليها وطلبنا منها الصعود، ورغم البلل الشديد والغرق الذي تعرّضت له المعلمة، راحت السيدة المحترمة تعتذر منّا لأنّها "ستوسخ" السيارة على رأيها، وأنّها لا تريد سوى توصيلة إلى أقرب محطة مغطّاة كي تنتظر السيارات، وراحت تدعو الله أن يحفظ لي بنتي.

كانت يمام مُربّطة في "الكوت" على الكرسي الأمامي، وأدارت جسمها لترى المعلمة، وظلّت تتفرّس في وجهها طوال الطريق.

كنتُ أسابق المفردات وأنا أرُدّ على المعلمة، كي أخفف من حرجها وأعطيها المحارم لتجفيف المطر، وأقنعها أن أوصلها إلى وسط البلد، وأنّ سيارتي ومهنتي وعالمي الصحفي أقلّ طهارةً وإنتاجًا بعشرات المرّات من مهنتها وعالمها البريء والمحترم والمُنتج.

مرّت سنوات ولم أشبع من المشهد، ومع كل مطر أنتظر يمام كي تسأل عن توصيل الناس "اللي ما معهم سيارات"، وأتذكّر عندما كنت في عامي الأول من الوظيفة الحكومية، عندما أنقذني وأوصلني في ظروف مشابهة، شخصية سياسية معارضة إلى مكان عملي في السلطة الوطنية، علمًا أنّ هذا الشخص أمضى فترات اعتقال كثيرة في سجونها. وأصرّ على توصيلي رغم تعففي كي لا أفتح له جروحه على باب المكتب الحكومي. 

***

وقبل أن يأتي المطر، نعيش فصلًا فلسطينيًا مُهمًا جدًا لا نعيره الاهتمام الكافي، ثمة قتال صامت ومعلومات كثيرة معتّم عليها، وثمة إرادات أمنية على حافة الصدام الصعب الذي قد يصل إلى حدّ اقتحام رام الله، وتفتيش سجون ومصادرة سجناء يحملون الهويات الإسرائيلية. 

أميركا اتصلت على السلطة لتحرير متّهم بالتسريب، ثمّة قضاة فلسطينيون تحت طائلة العقوبات الإسرائيلية.

مشروع "حليب سباع" جيّد يقول مسرّبون إن كثيرين شربوه في الفترة الأخيرة لحماية القدس، وهذا يستدعي منّا حماية "المشروب". 

اختطاف محافظ العاصمة، اعتقال كوادر من فتح، إبعاد آخرين عن الشوارع، تحديد إقامات نشطاء، يحدث هذا بتغطية إخبارية أقلّ توهجًا من تغطية مهرجان تسوّق. 

   الخراب لا يعني تنازلنا عن مناطق تجمعنا في المواجهة   

صحيح أننا منقسمون بين مشروعين، لكنّ الخراب لا يعني تنازلنا عن مناطق تجمعنا في المواجهة، مؤلم أنّ الحرب الآن بين كوادر فتح وحدهم في القدس، وأجهزة أمن الاحتلال، مؤلمٌ أنّ حماس والجهاد لا يدخلان إلى هذه اللحظة الحرجة، مؤلم أنّ فصائل منظمة التحرير لا تعطي فعلًا في هذا الاتجاه، من المسؤول عن الإهمال، هذا سؤال مهم، لكن طرحه يكون في "الوساع"، ولا يطرح الآن. 

مؤلم أنّ هذا الملف العميق جدًا في الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد رأيًا عامًا صلبًا وساخنًا يخرج الناس فيه إلى الشوارع للدفاع عن منازل وشوارع وحارات العاصمة، وليقولوا كل شباك وكل متجر وكل برندة وكل شجرة وكل نسمة هواء مارّة من القدس هي لنا وممنوع بيعها. 

ومؤلم أن لا ننجح في هذا الملف، لأنّ فشلنا سيفتح بوابة ضخمة على صفقات التسريب.

ممنوع أن تكون المواجهات مع إسرائيل فردية أو حزبية، وممنوع أن نتمنى الفشل للخصوم، هذه فكرة في الإجماع والاجتماع قيلت كثيرًا عن هويتنا، ومثال القدس حاليًا نموذج على شعاريتنا الرديئة. 

***

لا أحد يكتب عن إبراهيم معلوف، إنّه موسيقيّ مجنون عثرت على مقطوعاته بالصدفة على كمبيوتر كرسيّ طائرة، والحمد لله أنّ الطائرة مملوكة لشركة طيران غير عربية، وأخوكم إبراهيم موضوع في قائمة مع عازفين عالميين، عالميين جدًا. واسمه العربي يفرح القلب بصراحة، وعنما تضغطون على المقطوعة.. يا إلهي، إنه مجنون فعلًا. 

مقطوعة "حشيش"، تفصلك عن العالم، ستسمع قلبك يتنفس، يصعد ويهبط ومثل عصفور يفلت من قفصك الصدري، وقبل أن يطير يلفُّ في كل شرايينك، يملأها بالأكسجين ويرحل. 

مقطوعة "بيروت"، حرفيًا تترجم المكان إلى موسيقى، حزن مباني حرب سابقة، وفرح مقاه قبل الحرب المقبلة، خبز وكورنيش وكحول وشوارع أخيرة قبل البحر والمطار. 

من كان يتخيّل أن "الف ليلة وليلة" ستكون بنسخة عبقرية مع آلة موسيقية واحدة بدل التخت الشرقي الكامل خلف أم كلثوم، ولا حتى بليغ حمدي نفسه، قادر على أن لا يعترف ببوق إبراهيم، وهو يقول "الهوا... الهوا... اه منو الهوا... اه منو الهوا". 

أعرف أنّ كثيرين سيلومونني على هذه "الميوعة"، آخر مرة، ولن أعيد الكتابة عن الموسيقى


اقرأ/ي أيضًا: 

عن المقاومة الموسمية

غزة.. لو كنتُ مكانك

عن العيش في "عزلة صاخبة جدًا"