بتاريخ 25 تموز/يوليو 1968، عبر 9 فدائيين نهر الأردن من ضفته الشرقية إلى ضفته الغربية لتنفيذ عملية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد نجحوا في الهجوم على معسكر للجيش في الأغوار، ثم انسحبوا باتجاه قرى المنطقة الشرقية لمدينة نابلس، وهناك وقعت معركة انتهت باستشهاد 8 ثوار واعتقال التاسع، مقابل مصرع ضابطين كبيرين في جيش الاحتلال، وهو ما وثقناه لكم في الجزء الأول من هذه المادة: إرث المعركة.. فدائيو الواد الأحمر.
لم تُعرف آنذاك هوية الثوار الثمانية الشهداء، وفي هذا البحث حاولنا مع الفدائي الوحيد الناجي من العملية البحث عن أسمائهم وتوثيقها، وهو ما نسرده لكم في الجزء الثاني من هذه المادة.
في العام 2015، وفي غمرة الإجراءات الاستيطانية للسيطرة على الأغوار، بادرت جهات في دولة الاحتلال لتسمية منطقة (واد زمّور) أحد روافد الواد الأحمر في الأغوار باسم درب القادة، مُعلنة عنه كمسار بيئي لتخليد ذكرى اثنين من كبار قتلاها، اللذان لقيا حتفهما في معركة الواد الأحمر المذكورة.
بعد سنتين من ذلك التاريخ، وبينما كان المتجول أنور دوابشة يخطو بهمة باحثًا عن مسار جبلي يسلكه وفريقه في الأغوار، عَثر بالصدفة عند مدخل الواد على اليافطات الحديدية المثبتة على الصخر، وتشير لمعركة أسفرت عن قتلى وشهداء.
[[{"fid":"73234","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":507,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
[[{"fid":"73235","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
مساء ذلك اليوم أرسل إليّ دوابشة تلك الصور كي نبحث عن ترجمتها ونفهم بالضبط عن ماذا تتحدث. خلال ساعات كُنا قد عرفنا تاريخ المعركة، وعرفنا أن هناك فدائيًا أُخذ من المكان أسيرًا، فيما لقي رفاقه الثمانية حتفهم شُهداء. وهنا بدأت رحلتنا في البحث الجدّي عن معركة ضارية بلا رواية فلسطينية لأحداثها.
معركة الواد الأحمر - الضارية - لا رواية فلسطينية لأحداثها.. في هذا البحث محاولة لتوثيق أسماء بعض شهدائها بالتعاون مع الناجي الوحيد منها
بدأت البحث في سجلات الأسرى الصادرة عن مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة، وبعد جهد مضني عثرت على اسم لأحد الأسرى اعتُقل في التاريخ المطلوب، وهو عبد العزيز محمود سليم طه المحكوم بالسجن 99 عامًا لم يكملها، إذ أفرج عنه في صفقة تبادل الأسرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ( القيادة العامة ) في العام 1985.
اقرأ/ي أيضًا: معركة الصوانة: ثمار انتصار الكرامة
كانت هذه البداية ومن هُنا بدأنا المشوار، حاولت الوصول لبعض قدامى الأسرى المُحرريين لكن الوقت كان متأخرًا ليلتها، فأمضيت الليلة ساهرًا أقلب الصفحات وأفتش بدقة حتى وصلت للرجل من خلال موقع "فيسبوك"، وسارعت لإرسال رسالة له أتاني الرد عليها صباحًا، وفي ذات الوقت أرسلت إلى دوابشة تفاصيل ما جرى معي فبدأ من جهته رحلة البحث والتواصل.
كان وقع الصدمة كبيرًا على أبو إيهاب (عبد العزيز طه) الذي أضحى مقيمًا في الأردن: لماذا الآن؟! لماذا بعد 49 سنة؟ كيف وصلتم إليّ وعرفتم أنني الناجي من الموت يومها؟. وبعد شرح ومقدمات ووصف لرحلة البحث عنه، أخذ يسرد بألم تفاصيل ذلك اليوم، واصفًا ما بقي في ذاكرته من لحظة التدريب إلى لحظة الاعتقال.
رافقنا الأسير المحرر طه لعدة أيام ونحن نتواصل عبر الهاتف وعبر "فيسبوك" باحثين عن كل صغيرة في ذاكرته حول شخوص تلك العملية الفدائية. لقد كانت مهمة صعبة على الرجل، ففجأة فتحت المواجع أبوابها عليه وجادت الذكريات بألم شظايا الرصاص الباقي في كتفه وقدمه، وبدأ بسرد قصته: "كان معي في الدورية أبو النور، برهان، سعيد، أمين، وأحمد سالم...". هؤلاء تذكرهم عبد العزيز طه وخانته الذاكرة في أسماء ثلاثة منهم. وقد نطق بهذه الأسماء وقال: الآن أترك المهمة لكم .. لقد تعبت من الانتظار طوال 49 سنة.
لم يكن هناك خيار أمامنا، لقد قررنا أن نبدأ الرحلة طواعية وعلينا أن ننهيها، وهنا أذكر الفضل لصاحب الهمة أنور دوابشة الذي قادنا في رحلة البحث والتنقيب عن هؤلاء الشهداء لعدة شهور، كُنا نصيب خلالها ونخفق، نمسك طرف الخيط ثم ينقطع. تطلب الأمر سفرًا وترحالاً، وزيارات متواصلة للمكان في محاولة يائسة لاستنطاق الأرض والكهوف والصخور وذاكرة كبار السن.
حاولنا البحث في المذكرات التي تناولت العمل الفدائي، وكذا في الأرشيفات وبلاغات الثورة ويومياتها المطبوعة. وبحثنا في سجلات المفقودين الذين يُفترض أنهم في مقابر الأرقام، لكننا لم نجد ما نريد. وكل ما وجدناه كان رواية صهيونية غارقة بالتفاصيل وتقديم جنودها كأبطال.
كان اللغز الأول في هذه المهمة هو البحث عن المفقود عبد اللطيف دوابشة من قرية دوما، الذي بدأ الشك يتسرب لأنور دوابشة أنه من بين هؤلاء الشهداء، فعبد اللطيف معروف باسمه الحركي "أبو النور"، واللقب وارد في قائمة الشهداء، وهنا بدأ النبش في ذاكرة الرجل الستيني (عبد العزيز طه) عن رفاقه بعمق. عُرضت عليه الصور والأوصاف وتعمق في التفاصيل والملامح والقصص الدقيقة التي قد تساعد على تركيب أجزاء الصورة. وجاء الجواب القاطع أخيرًا: عبد اللطيف دوابشة هو الشهيد الأول في هذه القائمة.
[[{"fid":"73236","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":507,"width":380,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]
الشهيد عبد اللطيف دوابشة
ثم واصل طه سرد تفاصيل الشهداء: الشهيد سعيد، غزاوي كان في جيش التحرير الفلسطيني قبل الالتحاق بحركة فتح. وبعد التواصل مع المحررين من أسرى الدوريات، وبعض قيادات القطاع الغربي كان الجواب: الشهيد سعيد أبو عون من مخيم جباليا هو الرجل الثاني في القائمة.
أما قائد دورية العمق الفدائية "أمين أبو شنب"، فكانت ذاكرة الراوي قد ساعدته ليتذكر بأنه من قرية بيت دقو قضاء القدس، وأنه كان طالبًا جامعيًا التقى به في دورة صاعقة في القاهرة. فانطلقنا إلى بيت دقو بعد أن وجدنا في قائمة شهداء البلد اسمين، أحدهما أمين هاشم ريان، والآخر يوسف حافظ داوود، ومن بيت دقو لمخيم قلنديا وعبر حوار وتواصل وبحث ونفي وتأكيد من قبل رفاق الشهداء ومعارفهم، كان الشهيد الثالث في القائمة هو: يوسف حافظ داوود الذي حمل اسمًا حركيًا لابن بلدته (أمين) الذي سبقه بالشهادة في الغور بالقرب من فصايل في شهر كانون ثاني/يناير عام 1967.
اقرأ/ي أيضًا: معركة القعدة: أبناء النكبة يقولون كلمتهم
بعد قرابة الشهر من عصر الذاكرة ومراجعة رجال القطاع الغربي، كان الشهيد (برهان) على طاولة البحث، حيث قيل لنا بأنه من قرية حجة قضاء قلقيلية، وتجمعت تفاصيل وقصص صغيرة جرت أحداثها في عمان قبل النزول في الدورية في آب/أغسطس عام 1968.
[[{"fid":"73237","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":580,"width":326,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]
الشهيد ياسر الحوتري (برهان)
وفي قرية حجة وجد الصديق أنور دوابشة شهيدًا يحمل اسم ياسر الحوتري، يُعتقد أنه استشهد في الغور إلى الشرق من مجدل بني فاضل في عملية الثأر للشهيد عبد المنعم رياض في شهر آذار/مارس عام 1969. وبعد مقارنة التفاصيل التي ترويها العائلة وما يرويه عبد العزيز طه ورفاقه، كان الفدائي ياسر الحوتري هو الاسم الرابع في قائمة الشهداء.
أما الشهيد أحمد سالم، دليل المجموعة فكان اسمه وموطنه مطبوعًا في ذاكرة عبد العزيز طه: (الدليل أحمد سالم كان من مخيم بلاطه شرق نابلس) لكن في مخيم كبير مثل بلاطه ليس من السهل الوصول لهذا الشهيد، فبقي الاسم الخامس مؤكدًا بأنه من مخيم بلاطة.
ثلاثة من الشهداء غابت أسماؤهم الحركية عن ذهن رفيقهم الأسير المحرر طه بعد هذا العمر من الكفاح والكد، وعجزنا عن إيجاد خيط واحد في كل سجلات الثورة وأرشيفها وبياناتها وتاريخها يذكر الشهداء ويوصلنا إليهم، فنُسيت أسماؤهم.
إن ما حققناه في بحثنا الميداني هو امتلاكنا مفتاح رواية فلسطينية لمعركة خاضها أبطالنا على ثرى فلسطين وضحوا بدمائهم لأجل حُريتها، وها نحن ننتظر أن يحمل ملف جثامنيهم المُحتجزة في مقابر الأرقام ليعودوا لأهلهم مُكرمين بثوب الشهادة ويدفنوا كما يليق بهم كأبطال ضحوا لأجل الحرية والاستقلال.
اقرأ/ي أيضًا:
معركة الدريجات: قاتلوا حتى نفدت ذخيرتهم