لا تحتاج الضحية لاعتراف الجلّاد للتأكّد من أنها على حقّ، وفي أغلب الأحيان يظلّ اعتراف الجلّاد ناقصًا، أو يطلب من الضحية ببرود تقديم مزيدٍ من التضحيات للوصول إلى التسوية بينهما، وهنا أقصد المستعمِر والمستعمَر.
لا تحتاج الضحية لاعتراف الجلّاد للتأكّد من أنها على حقّ، وفي أغلب الأحيان يظلّ اعتراف الجلّاد ناقصًا
يمكن تلخيص علاقة الفلسطينيين بتيّار المؤرخّين الإسرائيليين الجدد بهذه الكلمات، لكنّ هذه المقالة ليست عنهم، بل هي عن ملفّ الكتب والمكتبات الفلسطينية التي سرقتها العصابات الصهيونية إبّان نكبة فلسطين الأولى عام 1948، والتي فتحت مع كتاب الباحث الإسرائيلي غيش عميت، والذي ترجمه "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار" تحت عنوان "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية".
اقرأ/ أيضًا: أنيس صايغ.. أرشيفٌ لفلسطين
خلَفت النكبة عام 1948 آثارًا كارثية على المجتمع الفلسطيني على أكثر من صعيد. ولم تقتصر عملية الاقتلاع على تهجير الفلسطينيين وإلغاء وجودهم الفيزيائي على الأرض فقط، بل شملت العمل على اقتلاعهم ثقافيًا وحضاريًا أيضًا، تماشيًا مع أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، على سبيل دعم أسطورة الخلو الحضاري، ونفي أي علاقة فلسطينية ثقافية وروحية مع المكان. سيطرت العصابات الصهيونية على الأرض وما عليها، واشتمل ذلك على سرقة عدد كبير من الكتب الفلسطينية من المكتبات الخاصة والعامة على حدٍ سواء. فقد سرقت هذه العصابات، بحسب دراسة عميت، من القدس الغربية وحدها ما يزيد عن 30.000 ألف كتاب ومخطوطة.
ومع أن الصهيونية كانت قد اتخذت من هذه الأسطورة شعارًا لها، لكنها لم تنكر وجود السكان المحليين، وإنما تجاهلته ولم تأخذه بعين الاعتبار. فالأرض كانت فارغة بالمعنى الأعمق؛ أي بالمعنى الحضاري، لذلك عملت على طمس ونهب أي موروث ثقافي يدحض الأكاذيب التي اختلقتها. ولم تأخذ الصهيونية على عاتقها العبء الذي أخذه الرجل الأبيض على كاهله، ولم تعمل على "تحضير" الفلسطينيين، بل قامت باقتلاعهم وبالسيطرة على ممتلكاتهم، لأنّها كانت ببساطة أكثر قدرة وكفاءة بالحفاظ على الأرض وكل ما عليها من ممتلكات فلسطينيّة. روّجت الصهيونية نفسها على أنها حركة مستنيرة تعرف قيمة الحضارة والعلم، وبالتالي أعطت نفسها الشرعية والأحقية بسرقة المكتبات الفلسطينية الخاصّة، منها مكتبة خليل السكاكيني وناصر النشاشيبي وغيرهم من مثقفي وأثرياء الفلسطينيين في أحياء الطالبية والبقعة والقطمون.
وفي ذات المنوال، وتماشيًا مع الأسطورة ذاتها وترويجًا لها، قامت العصابات الصهيونية بالتزامن مع ذلك بإعاقة وتدمير الحداثة في المدن الفلسطينية؛ يافا وحيفا بشكلٍ أساسيّ. كل ذلك في سبيل استهداف الهوية الفلسطينية، والتي هي هويّة ثقافيّة بالأساس. حيث كانت المدن الساحلية الفلسطينية بشكلٍ خاص وباقي المدن الفلسطينية بشكلٍ عام قد شهدت تطورًا اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا في العشرينيات من القرن الماضي. وفيما يتعلق بالمشهد الثقافي على سبيل المثال، انتشرت المكتبات الفلسطينية في مدن حيفا ويافا والرملة والقدس، وفي فترة الانتداب البريطاني صدر في فلسطين أكثر من 200 صحيفة ومجلّة، ما بين يومية وأسبوعية وشهرية.
في "بطاقة ملكية"، يسلط غيش عميت الضوء على نكبة المكتبات الفلسطينية
يتطرق عميت في أطروحته إلى عملية نهب وسرقة الكتب من المكتبات الفلسطينية الخاصة في أحياء القدس الغربية. وتكمن أهمية هذه الأطروحة في أنها الدراسة الأولى التي تبحث في عملية ما يمكن أن نسميه نكبة المكتبات الفلسطينية، كما أنها تسلّط الضوء على عمق الأكاديميا الصهيونية المهيمنة، ومرحلة تأسيسية مهمة من تاريخ مكتبتها الوطنية، التي قامت أيضًا على أنقاض الفلسطينيين، وتثبت أنها جزء لا يتجزّأ من منظومة الاستعمار الاستيطاني ومنظومة الهيمنة والإلغاء والنفي التي مورست، ولا تزال، على الفلسطينيين لإسكاتهم تاريخيًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا.
اقرأ/ أيضًا: سلمان ناطور في سفره الطويل
لكنّ الإشكالية تكمن في أنّ جميع المحاولات الفلسطينية في هذا الصدد، حتّى المقالة هذه، لم تفلح في تجاوز صدى ما جاء به عميت. فمن خلال رصد الأخبار التي صدرت في الصحف الفلسطينية عن سرقة المكتبات الفلسطينية، نجد أنّها جميعها كانت في حالة من الصدمة والذهول، وكأنها تسمع عن الموضوع لأوّل مرّة، ولم يفلح أيّ منها في البناء على ما جاء به عميت للتفكير في المطالبة بالكتب المسروقة.
العملان الوحيدان اللذان من الممكن التعويل عليهما في هذا السياق هما وثائقي أنتجته قناة "الجزيرة" عن نهب المكتبات الفلسطينية، ومعرض فنّي قامت به الفنانة الفلسطينية إيملي جاسر، حيث عملت وعلى مدار عامين على تصوير الكتب الفلسطينية الموجودة في المكتبة الوطنية في الجامعة العبرية، والبالغ عددها 6000 كتاب (ما تبقّى من كتب محفوظ بشكل سرّي في المكتبة ولا يتاح للعرض أمام العيان)، وعرضتها بمعرض بمدينة نيويورك في العام 2014، حيث عالجت قضيّة نهب الكتب الفلسطينية، وحاولت بذلك إخراج القضية إلى الحيز العالمي الأوسع.
وبالعودة إلى عملية سرقة الكتب، كانت العملية في البداية غير منظّمة، لكنها نظّمت على يد القيّم على أملاك الغائبين ضمن قانون أملاك الغائبين، والذي تمّت في ضوئه تنظيم سرقة الممتلكات الفلسطينية جميعها، حيث أسهم القانون في شرعنة سرقة الكتب ونهبها في هذه الحالة. وضعت الكتب في البداية في معهد علوم الشرق، التابع للجامعة العبرية، وقد أنيط بها دورًا استشراقيًا بحتًا، حيث استخدمت لدراسة المجتمع العربي والفلسطيني، حيث صرّح القائم على القسم حينها أن نقل هذه الكتب سيؤدّي إلى توسيع إمكانيات البحث، وأنّه لا يجب التفريط بها بأي شكلٍ من الأشكال، خصوصًا أن المركز يتفوق على أي مركز عربي مشابه في المنطقة.
كما أسلفنا، تمت عملية النهب بذراعٍ قانونية، وفي المرحلة الأولى، قبل الستينيات، كانت الكتب تحمل رقمًا تسلسليًا يسجّل تحته اسم المالك باللغة الإنجليزية وفق اختصاراتٍ محدّدة. لكنّ التغيير الذي حدث كان بعد تلك الفترة، هو إزالة أسماء المالكين واستبدالها برمز "AP" والذي يعني "أملاك مهجورة".
هل ستعيد إسرائيل ما سرقته تحت قانون أملاك الغائبين، خصوصًا أن خطوة كهذه ستزعزع الأساسات التي بني القانون عليها؟
اقرأ/ أيضًا: الروائيون الجبناء ورواية "الحيط الحيط"
تفتح دراسة عميت عددًا من الأسئلة عن مصير الكتب وعمّا إذا كانت ستعاد إلى الفلسطينيين يومًا ما؛ لكنّ السؤال الأساسي هو هل سيعيد اللّص الذي نهب الأرض وهجّر السكان وقتلهم جزءًا من غنيمته؟ وهل ينوي ذلك فعلًا؟ ولماذا لم تكن هناك مطالبة رسمية صريحة بالكتب المسروقة؟ ولماذا تم الاستخفاف برأسمال فلسطين الثقافي؟ هل الإجابة التي قدّمها أحد العاملين في المكتبات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلّة تبرّر ذلك؛ "خسارة الفلسطينيين كانت فادحة، وهول المأساة لم يعطهم الفرصة للتفكير بمصير الكتب وقد خسروا الحجر والبشر". يقترح عميت أن تعاد الكتب إلى "مكتبة وطنية فلسطينية"، وربمّا يجب أن يأخذ المتحف الفلسطيني اليوم على عاتقه المطالبة بالكتب السليبة. لكنّ القضية مفتوحة أيضًا لورثة الكتب، التي صودرت من حيّزها الخاص مرّة واحدة وللأبد. والأهمّ من ذلك كله، هل ستعيد إسرائيل ما سرقته تحت قانون أملاك الغائبين، خصوصًا أن خطوة كهذه ستزعزع الأساسات التي بني القانون عليها؟
اقرأ/ أيضًا: