كان يجب أن تكون هذه المذكرات، لا وطن دونها، لا حقّ دونها، كما كان يجب أن تكون في هذا العالم جنّة اسمها فلسطين، المذكرات نوع من أنواع الدفاع عن النفس، وشكل من أشكال المقاومة، كأننا بها نتمكّن من كسر الأكاذيب ونصدم الغزاة بالحقيقة. أعداؤنا هجموا علينا ويهجمون ليس بالرصاص والقذائف فقط بل بالرواية والعقائد والأساطير المحبوكة بعناية وصبر شيطانيّ.
نحتاج إلى تفاصيل حياتنا، إلى صوت البيوت والدكاكين والحقول، إلى حكايات المقاتلين، وشجاعتهم وحزنهم، إلى ما حدث، نتعطّش إلى فهم كيف هزمتنا الصهيونية وابتلعت أرضنا
معركة الرواية جدّ خطيرة، والمنتصر فيها هو المنتصر بالرصاص، مهم جدًا أن نكتب حياتنا، مهم لفلسطين والقدس تحديدًا والتاريخ، أرغب في أن أعيد حياة شعبي كفيلم وثائقي بطيء وطويل وتفصيلي، فيلم يعرض في شوارع مدن العالم، لنقول للعالم: "نعم كُنّا هنا يا عالم، بكامل سهولنا وكامل أغنياتنا وجذورنا"، هكذا تقترب يوميات هذه الأسرة العظيمة من الاكتمال، أتحدّث هُنا عن مذكرات "أنا والقدس" التي صدرت مؤخرًا عن مؤسستي تامر والدراسات الفلسطينية بترجمة رائعة للشاعرة هلا الشروف، لهالة السكاكيني ابنة المربي والإنسان العظيم خليل السكاكيني.
كنت أحبُّ لو أن ميليا شقيقة خليل -عمة هالة، كتبت هي الأخرى يوميّاتها، ولو أنّ بياعة الفقوس والباذنجان التي كانت تطرق باب الأسرة كتبت هي الأخرى مذكراتها، ولو أنّ أصحاب خليل عادل جبر وإسعاف النشاسيبي وأحمد سامح الخالدي ومعروف الرصافي ونخلة زريق وموسى العلمي وخليل طوطح، وكل الذين شهدوا مراحل ما قبل النكبة. كنت أتمنى لو أنّ كل فلسطيني قبل 48 كتب يوميّاته، نحتاج إلى تفاصيل حياتنا، إلى صوت البيوت والدكاكين والحقول، إلى حكايات المقاتلين، وشجاعتهم وحزنهم، إلى ما حدث، نتعطّش إلى فهم كيف استطاعت الصهيونية هزيمتنا وابتلاع أرضنا، السياسيون قالوا كثيرًا عن أسباب عديدة لهزائمنا، لكن حياة الناس البسطاء هي التي يجب أن تقول، وأسباب البسطاء طبيعية غير مفكر فيها، لكنها حقيقية جدًا، وملهمة، التفاصيل التفاصيل، كم أحب تفاصيل مذكرات الناس، ويومياتهم، الناس لا يكذبون، السياسي يكذب والمفكر يبالغ، الحقيقة دائمًا رفقة الناس العاديين، هذا ما رأيته بوضوح في مذكرات هالة "أنا والقدس".
لا أظنّ أن كتب التاريخ قدّمت وصفًا دقيقًا لمعركة القطمون -آخر معارك القدس- كما قدّمته مذكرات ويوميّات هالة السكاكيني
تكتب هالة المهجّرة مع عائلتها من القدس عام 48 عن طفولتها وشبابها في القدس، في الثلاثينيات والأربعينيات، وتسرد بأدق التفاصيل حكاية العائلة المقدسة المثقفة العلمانية المتفتّحة، المكوّنة من الأب خليل والأم سلطانة والأخ سري والأخت دمية والعمة ميليا، وقصص الجيران والأهل والمدارس والأحياء والأدباء والمفكرين والشوارع والمقاهي والمسارح والمدارس وبطولات المقاتلين، وفي سرد ساخن ومتوتر ويقطع الأنفاس، نقرأ عن تفاصيل معركة القطمون البطولية التي صمد فيها البطل إبراهيم أبو دية، ابن صوريف، وهو يقاتل مع رفاقه القليلين حتى الرصاصة الأخيرة آخر هجمات الصعصابات الصهيونية على آخر حي من أحياء القدس.
"نحن الآن العائلة الوحيدة الباقية في القطمون، فالاخوان سروجي أخرجا أسرتيهما قبل أيام، وكان السيد داوود طليل وأسرته والسيد الياس منصور وعائلته قد غاردوا إلى سوريا قبل أسبوع، وفي المساء أرسلنا في طلب أبو عطا وإبراهيم أبو دية، وأمضينا معهما واحدة أخرى من تلك السهرات اللطيفة التي كُنّا نقيمها مؤخرًا في البيت، وقد استمرت حتى الحادية عشرة تقريبًا، ناقشنا فيها إمكان حدوث هجوم آخر على القطمون، كان رأي أبو دية أنّ مثل هذا الهجوم سيحدث في وقت قريب، لكنّه قال إنه مستعد لذلك".
لا أظنّ أن كتب التاريخ قدّمت وصفًا دقيقًا لمعركة القطمون -آخر معارك القدس- كما قدّمته مذكرات ويوميّات هالة السكاكيني، كانت هالة شاهدة عيان وشاهدة قلب على المعركة، وتحدثت واستضافت أبطالها في بيتها، وناقشتهم في الخطط العسكرية وقدّنا الاقتراحات، بل وشاركت في دورة إسعاف لإنقاذ جرحى المعارك، وشجّعت المقاتين وقدمت لهم الشراب والطعام، وفتحت بيتها لهم ليستريحوا، ويخططوا بهدوء لصدّ الغزاة.
"أمس نُقل أو دية إلى مستشفى بيت صفافا، لأن جروحه بدأت تنزف من جديد، عند السادسة جاء السيد سروجي وأبلغنا أنّ أبو دية هرب من المشفى، بالبيجاما والشبشب، هذا هو أبو دية، وقد أرسل له الخال نجيب كنزة صوف، وأرسل له أبي جوارب صوف أيضًا، وعند التاسعة جاء إلينا أبو دية، فأدخل وجوده البهجة في أمسيتنا، إنه شخصيّة لن أنساها ما دمت حية، عندما يتحدّث يسحرك، يستخدم جملًا قصيرة، كلماته قوية، ملاحظاته مبتكرة، ويشعرك أنه قادر على تخطي العقبات".
بالتفاصيل وثّقت هالة معركة القدس الأخيرة، وبالمشاعر أيضًا، طيلة حديثها عن أبو دية، شعرتُ بوقوعها في حبّه، إلهي، من يقدر على عدم حُبّ هذا البطل الذي نسيه التاريخ وأحيته هالة في مذكراتها كأجمل وأوفى ما يكون الإحياء.
تدخل هالة غرفتها، تشعل شمعة، فالكهرباء مقطوعة، تصلي لحارس حيّها وقلبها، وتمضي إلى دموعها.
هل الحب في الحرب محكوم عليه (بالـموت). كالرجال والأزهار والأطفال والبيوت؟ في أول أيار، يصاب الرجل الشرس في عموده الفقري، فينقل إلى مشافي بيروت، حيث يموت هناك بتاريخ 6/3/1952، يشارك في جنازته مئات آلاف البشر، تغادر الأسرة الطيبة حي القطمون إلى القاهرة بعد رحيل الرجال، تعود الأسرة ممثلة بالأختين، الأخت الناعمة والأخت التوأم ديمة، بعد العام 67 إلى رام الله، ناقصة الابن والعمة والأب الذي كان يعرف بالضبط لـم سقطت القدس مرتين؟ ستكبر هالة كثيرًا، ستصبح ثمانينية، تمشي في شارع مكتبة رام الله، إلى اللامكان مثقلة بذكرى بطولة منسية للرجل الشرس والأزهار الوفيّة، وحدها ستبقى أزهار الشرفة هناك في القطمون، تعزف موسيقى الحب الـميّت، هل مات حقًا؟ هل يموت الحُبّ؟ حتى لو كان جنينًا في بطن الصمت؟ حتى لو كان مجرّد هاجس صغير، أو فكرة ضئيلة أو رغبة غامضة؟
بالحب نقاتلهم والتفاصيل..
اقرأ/ي أيضًا: