ازدحمت في قلبه المشاعر فجأة. لا يستطيع عبد العزيز عبد العال أن يشرح ما كان يحدث معه في لحظات ما قبل مغيب شمس الجمعة الماضية، فكل ما يذكره أنه لم يعد قادرًا على تحمل رائحة "البولودين" (معقم الجروح) أكثر.
"ماذا حدث معه؟" سأله الطبيب بينما كان يحاول إيقاف النزيف من سبابة طفله هاني ذو الأعوام الستة التي قُطِعَت للتو، فأجابه بعد أن أخَذَ نفسًا عميقًا: "أخبروني أن ابن عمه أغلق على يده الباب بالخطأ". هزّ الأول رأسه، وعلّق في محاولةٍ لتهوين المُصاب: "الله يحبّك يا رجل.. هذه تفاقيد رحمة".
عبد العزيز ذهب للمستشفى لعلاج طفله هاني، وهناك وجد طفله شادي شهيدًا لا يستطيع أحد التعرف عليه
عبد العزيز قابل العبارة بابتسامة رضا، بينما كان يرقب من نافذةٍ قريبةٍ سيارات الإسعاف وهي تنقل المصابين من الحدود الشرقية لمدينة جباليا شمال قطاع غزة إلى المستشفى الأندونيسي الأقرب للمنطقة، فجأةً باغت الطبيب بقوله: "الوطن كله بينزف يا دكتور.. إجت على إصبع إبني".
اقرأ/ي أيضًا: رزان النجار.. حلم فلسطيني آخر في شاهد بلا قبر
عند مفترق الحديث مرّ ممرض، أوقفه الطبيب بإشارةٍ من يده: "أحمد.. هل عرفوا هوية الشهيد في الثلاجة؟"، أجابه بنبرة استعجال: "حتى الآن لا.. لقد أتم ساعتين ولم يتعرف إليه أحد". يقول عبد العزيز :"مش عارف ليش انقبض قلبي، سألت: أي شهيد؟ جاوبني الدكتور: طفل بعمر 12 تقريبًا".
قشعريرةٌ أصابت فجأةً كل جسده، اشتعل وانطفأ في آنٍ معًا، وتمتمَ في سره يقول: "يا الله.. طفل يضل (غريب) ساعتين كاملات، وفي ثلاجة! الله يصبّر أهله لما يعرفوا".
[[{"fid":"74175","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"5":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":507,"width":380,"class":"media-element file-default","data-delta":"5"}}]]
الشهيد شادي عبد العال
أتمّ الطبيب عمله مع الصغير هاني، لكن الأب عبد العزيز لم يغادر المستشفى! سببٌ خفيٌّ دفع به إلى طلب صورةٍ للشهيد الطفل وهو يُمنّي نفسه معرفته "من يدري، لعله من الفاخورة.. لعله من منطقتنا".
أحد أصدقائه ويعمل حارس أمن في المستشفى نفسه جلب له صورةً على وجه السرعة التقطها بكاميرا هاتفه المحمول: "هذا هو الشهيد.. شوفه يا عبد، يا رب تعرفه". استجاب الله، وعرَفَه.. لقد كان ابنه! شادي عبد العزيز عبد العال.
لحظاتٌ هاربةٌ من العمر كانت، شهقاتٌ لا زفير يتلوها، دمعاتٌ انهمرت تباعًا، وصوتٌ صرَخَ فجأةً: "شـــادي".
جدة "الحب" وجدة "الرحمة"
الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر للعام 2018، صبيحة تلك الجمعة بدا كل شيءٍ باردًا إلا ابتسامة أمه إذ أخبرها بـ سِر: "يا الله ما أحلى ضحكتك يما"، لا صخَب لأطفال حي "الفاخورة" حتى! وصوت المذياع يصدح من غرفة الجدة ليخبرها أن "مسيرات اليوم تحمل اسم: المقاومة خيارنا"، أطفأته ونادت بأعلى صوت: "شادي.. أوعى تروح، هذه آخر مرة بنبهك، الجمعة الماضية ضحِكِت علي، هالمرة مش راح تقدر".
كان شادي - ابن الصف السادس الابتدائي - طفلاً يُتقِنُ الأمل، كان يؤمن أن جناح عصفورٍ سيحلّق به يومًا في السماء ليرى بلدته هربيا (شمال غزة داخل الأراضي المحتلة). كان يتمنى أن يترك بيت المخيم وسقفه الصفيح ليعود إلى عز الوطن، إلا أن جدته التي تكفّلت بتربيته هو وشقيقه التوأم محمود كانت غالبًا ما تنتف - من غير قصدٍ - جناح طيره ذاك خوفًا عليه من ضريبة الحماس الزائد.
[[{"fid":"74171","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":376,"width":336,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
لم تكن تستطيع أن تتخيل أن يشاك أحدهما بوردة؛ فما بالنا بحاجّةٍ تجلس كل جمعة منذ خمسةٍ وعشرين أسبوعًا، لتعدُّ فقط شهداء وجرحى مسيرات الحدود؟
أجابها شادي: "حاضر.. حاضر"، ومضى يطرق باب الحاجة المسنّة زينب، جارتهم التي تعيش بمفردها ويناديها هي الأخرى "ستي"، وهي تصفه كلما ذكر أحدهم اسمه أمامها قائلة: "الله نفخ في روحه رحمة ما شفتها بقلب مخلوق عمري". كان متكفلاً بجلب احتياجاتها كلها، كان نديمها وقت المساء عند عتبة الدار، ورهن إشارتها إن نادت.
شادي غسل أرضية شارع الفاخورة، "بدي يكون أنظف شارع في غزة كلها، زي لو كان راح يصير فيه عرس"
سألها إن كانت لديها قمامةٌ يوصلها إلى الحاوية، أو إذا كانت تريد شيئًا من السوق، فطلبت منه بعد سيلٍ من الدعوات برضا الله ورحمته أن يكنس أمام بيتها العتبة. مرت عدة دقائق، شاهده أحد الجيران بعدها يغسل أرضية الشارع كله! ولمّا سأله أجاب: "بدي شارعنا يكون أنظف شارع في غزة كلها، زي لو كان راح يصير فيه عرس".
آخر زاد الدنيا تمرة!
بعد أكثر من ساعتين رجِعَ بملابسه المبللة يطلب طعامًا! وبالطبع، كل الباذنجان الذي قَلَته أمه كأنما "ملحٌ وذاب"! أنّبته جدّته أم العبد مجددًا وهي تفرك كفيها لأنه لم يأكل، فقال لها: "تخافيش عليَّ يا ستي". غاب عدة دقائق وكانت الشمس قد سطعت على سطح دارهم بقوة، ثم عاد يحمل بين ذراعيه بعض حبّات "الرُطَب" ويضحك.
"خدي يا ستي، جبتهم من دار عمي إلك، صارلي يومين برطّبهم علشانك، عاملها مفاجأة". نظرت إليه جدته وأقسمت بنبرة عتب أن لا تأخذ منه شيئًا لأنه "لا يسمع الكلام"، وأتبعت قسَمَها بآخر: "راح تضل اليوم قدام عيني ومش راح تطلع من البيت يا شادي، مفهوم".
كانت المرة الأولى التي ترفض فيها من يده شيئًا، أمال برأسه وضحك لها في محاولةٍ لتهدئة غضبها: "طب أمانة تاكليهم"، فلم تُجب. دخل بها مكسور الخاطر غرفة إخوته الضيقة يسأل: "مين ياكل رطب؟" تناولوها منه تباعًا، وتبقَّت له واحدة فقط، فأكلها دون أن يعلم أنها كانت "آخر زاده"، واختفى.
[[{"fid":"74174","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":447,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]
والدة الشهيد وجدته في بيت العزاء
بعد صلاة العصر، خاطبه والده بحزم: "ع البيت بسرعة". لقد كان يعرف أنه سيركب حافلات النقل المجاني لحشود المشاركين في مسيرات الحدود، فاستمر واقفًا يتابعه حتى تأكد بأن كل الحافلات غادرت. أجاب دعوةً مفاجئةً لشرب الشاي لدى صديق، ومضى يستند إلى ما ظنّ أنه "أمان" استطاع توفيره لطفله بعيدًا عن رصاص القناصة حتى الجمعة المقبلة على الأقل.
شادي كان كسمكةٍ تمرّدت على البحر كله. أخبر أحد أصدقائه - ويُدعى محمد إبراهيم - أنه سئم حياة المخيم، وقال له ساعَتَها: "يا رب نرجع ع بلادنا اليوم". غافل والده، وانطلق الاثنان إلى حافلة في جهةٍ خلفية كان لا يزال واقفًا مكانه، ركبا وغابا في طريق ذلك الحلم يمتطيان براءتهما والدعاء.
شادي لصديقه قبل استشهاده: "يارب نرجع ع بلادنا اليوم"
أحمد أبو شكيان صديقٌ آخر يكبره بثلاثة أعوام قابله عند الحدود، قال: "الفترة الي قضاها شادي هناك معي يا دوب دقايق، قربنا شوية ورا الشباب، وكان شادي معاه مقلاع مخبيه في أواعيه، طلعه وصار يرمي حجارة (..) كانت أول مرة أشوفه غضبان ومخنوق لهدرجة".
اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟
انهمرت قنابل الغاز بعدها لتصيب إحداها - بعد ارتطامها بالأرض وارتدادها نحو الأعلى - أسفل رأس شادي من الخلف، ففقد وعيه، ونزف، ثم نقله الإسعاف إلى المستشفى، وبعد ذلك "سمعنا أنه استشهد فعلاً بعد المغرب" يُضيف أبو شكيان.
"علشان يعرف إني بحبه"
شادي تمدد على ضريح الفقد "مجهول الهوية" أكثر من ساعتين، بينما شِق توأمه محمود يبحث عنه بين الأزقة في جباليا دون أن يجد له أثرًا. عاد إلى البيت مع الأذان فإذا بابن خاله يستقبله عند أول الشارع بعينين حمراوين: "لقيته يا محمود؟"، هز الأخير رأسه يمينًا وشمالاً ليخبره الأول: "طب اسمع يا محمود، لا تبكي. شادي استشهد". قطب محمود حاجبيه غير مصدّق، فإذا بابن خاله يرفع هاتفه بصورة "شادي" شهيدًا أمام عينيه.
يقول محمود: "أغمى علي، ما صحيتش إلا على صوت أمي وهي بتبكي ودموعها متل الشلال على خدها، قلتلهم وين شادي؟ ما حدش رد، ساعتها تأكدت".
محمود - توأم شادي - رسم وردة وكتب في جنبها الأيمن: "آسف على كل اللي عملته معك.. حبيبي شادي عبد العال"
أختهما دنيا استيقظت قبل فجر السبت على صوت محمود ينادي شادي أثناء نومه، لتصحو ثانيةً بعدها وتجده منهمكـًا في التلوين على ورقة. في الصباح، وجدت رسالةً رسم في وسطها وردة، وكتب في جنبها الأيمن عبارة: "آسف على كل اللي عملته معك.. حبيبي شادي عبد العال".
[[{"fid":"74172","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":466,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
قال محمود: "كنت بدي أحطها في الكفن بدون ما حد يشوفني علشان تضل معاه ويعرف إني بحبه، بس ما قدرتش، كانوا الناس كتار وأنا ما ودعته".
[[{"fid":"74173","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":407,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]
محمود شقيق الشهيد شادي
حملوه كشالٍ غاب مع الريح، رآه عندما وصلوا المقبرة، فلما أهالوا فوقه التراب بكى، بكى كثيرًا وطلب من الله لكليهما الرحمة والغفران.
في دار العزاء، جلَس والد شادي يحمل عبء دمعه وحده! كان يتظاهر بقوةٍ "هو في الحقيقة لا يمتلكها" أمام وجع الفقد ويواسي نفسه: "شادي مش لحاله، شادي معاه شهيدين الله يعين أهاليهم". يلتفت ناحية محمود، يربت على كتفه بينما الصغير ما انفكَّ يطالِعُ رسالته ويبكي.
في زاويةٍ ثانية، كانت الحاجة زينب تسند رأسها إلى كفها، تمسح بطرف شالها دموعها تارةً، وتشرد بذهنها بعيدًا تارةً أخرى وهي تستمع إلى حديث النساء عن حبيب القلب وابن الروح شادي. لقد مُنيَت - هي تحديدًا - اليوم بخسارةٍ مضاعفة عندما فقدت "الأمل" كما قالت، "حين فقدت شادي".
اقرأ/ي أيضًا:
عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته