14-يوليو-2016

عرفات معزيًا الأرملة ليا رابين باغتيال زوجها بحضور كلينتون

منذ أن فُتحت عيناي وأنا أعرف أصدقاء والدي اليهود. لقد كانوا لطفاء جدًا ومهذبين. "كيبي" الجندي الأشقر الذي كان يعمل نادلًا في صالة الأفراح التي عمل فيها أبي طاهيًا كان شديد التعلق بي. أذكر جيدًا ذلك اليوم الذي كنت أبلغ فيه الخمسة أعوام، حيث اصطحبني "كيبي" في جولة في مستعمرة "برديس حنا" على مقربة من حيفا. خلالها أعطاني سلاحه لألعب به. وفي اليوم ذاته لم يمانع عندما طلبت منه بفضول أن أرشف أول رشفة جعة في حياتي.

كثر كانوا أولئك الذين كانوا يداعبونني ويقولون لي بأنني طفل جميل ومرح. ولكن لهذا المديح كانت قيمة مضافة عندما كان يأتي من قبل يهود. لماذا؟ لم أسأل نفسي بتاتًا هذا السؤال!

كانت سعادتي تبلغ ذروتها في الأيام التي كنا ننتظر فيها زيارة "الخواجة" صديق عمي. كانت البهجة والأجواء الاحتفالية تعم بيت العائلة في ذلك اليوم، وكان جميع سكان الحارة يعلمون عن خبر الزيارة يومين أو ثلاثة أيام قبل موعدها.

جدتي وسلفاتها، أمي وجميع عماتي كنّ ينشغلن منذ الصباح بتحضير أدسم أنواع الطعام العربي الأصيل. من بعيد كنت أرقب الدكتور يونا خلال تناوله الطعام. وكنت أرصد كل حركة من حركاته، كل ابتسامة، كل هزة رأس, كنت أتتبع تعابير وجهه ولغة جسده.

كان شعور الهدوء والراحة يملأني عندما كان يشكر جدتي ويربت على كتفها ويثني على ما صنعت أيديها من طعام طيب.

على الرغم من طبيعة جدي المحافظة، إلا أنها لم تكن تخجل من الخواجة الدكتور يونا، كان الأمر مثار غرابة واستعجاب لدي، فقد كانت وكما هو متبع في مجتمعنا المحافظ تضع منديلا على رأسها، ولم أرها تصافح رجلًا قط، ولكن هذا الوضع القائم كان ينكسر بحضور الخواجة يونا، فلم تخجل أمامه من كشف رأسها، ولم تتردد أبدًا عندما كان يمدّ يده ليصافحها.

كانت قدرات عمي التاجر في إنشاء علاقات مع "اليهود" تبهر جميع أهل القرية، وكان منهم من يغار من فصاحته وطلاقة لسانه عندما كان يتحدث العبرية ويتقن اللدغة عند لفظ حرف الـ"غ" وكأنه أشكنازي الأب والأجداد. لكن السبب وراء تلك الـ"ر/غ" اليهودية كان أن عمي أتم دراسته الثانوية في مدرسة "كفار هاياروك" الواقعة شمال تل أبيب.

في كل عام، وخلال موسم قطاف الزيتون، كانت الجدة تحفظ حصة الأصدقاء اليهود: اللبنة، الزعتر، وخبز الطابون بالإضافة الى زيت الزيتون، كانت تصل إليهم مغلفة في طرود حتى بيوتهم في أحيائهم اليهودية.

أدركت يومها بأنه وبهذه الطريقة فقط ستكون التجارة معهم ممكنة. أذكر في تلك الأيام صور الزعيمين الراحلين ياسر عرفات وإسحاق رابين المتصافحين تملأ الصحف والحيطان. وأذكر الشعار الذي تزينت به معظم السيارت في قريتنا، ذلك الشعار كان "سلام الشجعان".

في تلك الدوامة من الزمن شاهدنا وببث حيّ ومباشر مراسيم توقيع معاهدة السلام في "وادي عربة" بين الأردن وإسرائيل. ولكن وبعد مرور سنة تقريبًا، وخلال مسيرنا إلى المدرسة صباحًا قال جاري بدر بأنهم قتلوا رابين الليلة!

لم نتعلم في ذلك اليوم، فالمفترض أننا أمام يوم حداد "وطني"، فأحد الآباء المؤسسين "للدولة" اغتيل للتو، وفي غرفة صفنا التي كان سقفها المثقوب من "أسبست"، ذات الشبابيك المكسورة وبدون باب، جلسنا حزانى، بل بالأحرى تلبستنا حالة الحداد.

قام مدرس الموسيقى الأستاذ عفيف بتوزيع كلمات آخر أغنية غناها رابين ليلتها مع صديقه وشريكه في رحلة الإجرام على درب تأسيسي الدولة شمعون بيرس على المنصة في ميدان "ملوك إسرائيل".. "تنو لشيمش لعلوت/ لبوكر ليهائير.."، أي "دعوا الشمس تسطع/دعوا الصباح ينير".

وللغرابة الآن أننا آنذاك، أي نحن، كلنا في الصف، غنينا مع المعلم كأننا ثكلى من صميم قلوبنا.

بقيت عيناي تغرورق بالدموع في السنتين التاليتين كلما سمعت أغنية الفنان اليساري الإسرائيلي أفيف غيفن الذي يغني "أني هوليخ لبكوت ليخا/ تهيه حزاك لماعلا.."، أي "أنا ذاهب لأبكيك الآن/تماسك أنت هنالك في الأعلى..

عندما بلغت الرابعة عشر من عمري أخذونا إلى المركز العربي-اليهودي للسلام في مستعمرة "جفعات حبيبا" على مقربة من وادي عارة لكي نشارك بمشروع خاص بين مدرستنا وبين مدرسة يهودية من "بات يام".

في اللحظات الأولى من اللقاء الأول سحرتني عينا سيفان الخضراوان وشعرها الأسود الناعم الممتد حتى خاصرتها.

لقد كانت جميلة بحق..

تبادلنا النظرات.. ابتسمت لها فبادلتني الابتسامة.. اقتربت منها وبدأت أكلمها.

فجأة، إذا بي أشعر بكتف قوية تلطم ظهري، زميلها في الصف مد فمه إلى أذني وقال لي بصوت غاضب فيه نبرة تهديد "اتركها، لديها صديق..".

بعد عدة لقاءات تعارفية في "جبعات حبيبا"، والتي كانت النقاشات فيها تدور بالعبرية فقط، ولم يكن مسموح لنا أن نتكلم حتى بيننا نحن الطلاب العرب بلغتنا العربية، وفق مبرر أن ذلك لا يليق حين نتكلم وغيرنا بالغرفة لا يفهم ما نقول، جاء وقت الزيارات البيتية المتبادلة.

منذ بداية المشروع فهمنا بأن هنالك بعض الطلاب من مدرسة "بات يام" رفضوا المشاركة.

ولكن، لم يأت لزيارتنا في البيوت كل من كان مشاركًا في المشروع في "جبعات حبيبا"، وحتى ذات العينين الخضراوين أيضًا لم تأت.

ولكن بالرغم عن ذلك، لم تهتز ثقة القائمين على المشروع، فطلب منا معلمونا ومعلموهم أن نستقبل ضيوفنا كما نعرف، حسب عاداتنا وتقاليدنا في حسن الضيافة.

أنا وخالد استقبلنا دودو ويوسي في بيت خالد. وطبعًا، قامت أم خالد بتحضير مائدة طعام مما حل وطاب من طعامنا التقليدي..

لم يخف دودو ويوسي عند زيارتهم قريتنا. تمامًا العكس، لقد كانا كثيري الفضول. فلم يروا عربًا إلا عبر شاشات التلفزة، ولم يعتقدا بأنهما سيتمكنان من زيارة بلدة عربية في حياتهما.

لقد انتابتهما الدهشة والاستغراب عندما علما بأننا ننام على أسرة مثلهم. واشتدت الدهشة عندما رأيا الحاسوب في غرفة خالد. وبعد تردد كبير، سأل دودو عن الحيوانات التي كان من المفترض أن تعيش معنا داخل البيوت.

عندما ذهبنا إلى زيارتهم في "بات يام" بعد أسبوعين لم يدعونا إلى بيوتهم، لقد استقبلونا في المدرسة وقاموا بتحضير بوفيه مفتوح. كان في البوفيه حمص وفلافل وباستا وسلطات، وكعك وكل ذلك جهّز من أجلنا خصيصًا، كنا أمام حالة إشكالية من التعرض لكرم "المضيف" على طريقته!

وخلال جولتنا برفقتهم داخل مدرستهم البحرية، قالوا لنا بأنها مدرسة خاصة، يتلقون فيها منذ الصف السابع تدريبات لتهيئتهم للانضمام إلى سلاح البحرية مستقبلًا، وأن الزي الكاكي الصيفي الجذاب بانتظارهم.

وعندما سمعوا دقة الجرس انقطع كل شيء، وحملوا حقائبهم وهرولوا مسرعين إلى بيوتهم وبقينا نحن الضيوف في مدرستهم.

هكذا انتهى مشروع التعايش الذي أشعرنا فيه المرشدون ومعلموهم ومعلمونا بأن المسؤولية تقع على عاتقنا لنثبت لزملائنا اليهود بأننا "تقريبًا" مثلهم، بشر.

ذلك المشروع الذي تجلت منذ انطلاقته علاقة السيد بالعبد التي خلقها مشروعهم الاستعماري ورضخ لها ورضيها كثيرون منا.

فقط وحتى ذلك اليوم كنت أفرح عند سماعي جملة "ولكنك لا تبدو عربيا..".

بعد بضع سنين، كانت مديرتي اليهودية في العمل تجلس مقابلي على طاولة الطعام أثناء الاستراحة. كانت تنظر إلى وجبة ورق العنب المحشي التي قامت بتحضيرها أمي. كانت تنظر ولعابها يسيل إلى حلقها، فقالت لي، ما رأيك بأن تطلب من أمك أن تحضر لي طنجرة ورق عنب محشي لآخذها معي إلى البيت؟ فزوجي وأولادي مغرمين بالمطبخ العربي..

رفعت رأسي عن طبق الطعام ونظرت إليها نظرة جعلتها تقوم مسرعة عن الطاولة وتهرول كما هرول الطلاب حين دق الجرس!

اقرأ/ي أيضًا: 

صور من حلب الغربية

شارع اللاجئين

فأرة تدحل الوقت