لمّا كانت منصات النشر التقليدية تحتكرها نخبةٌ ما، بفعل واقعٍ سياسيٍ غالبًا، أو واقعٍ شللي، حيث يمنح السادةُ مناصريهم ومريديهم مساحات للقول؛ كان التعبير عن الرأي محكومًا بضوابط المنصة، التابعة لفصيلٍ أو دولةٍ أو محور، مع ما يعنيه ذلك من تغييب كل "آخر" لا يعزف مع الجماعة ألحانهم، ولا ينبح معهم ذودًا عن حِمى أفكارهم من أي فكرة مغايرة، كلما لزم ذلك.
الحرية اليوم محكومةٌ بمقدار ما يسمح به النظام، أي نظام أنت جزء منه
انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، وفّر هواءً جديدًا، بدا نقيًّا أول الأمر، فصار الناس يدلون بدلائهم متى شاءوا، وانفرط عقد احتكار الرأي، حتى تمكن كثيرون ممن كُبت على أنفاسهم، وضُيّق عليهم، أن يكون لهم موطئ قدم، فعلا صوتُهم وحلّقت آراؤهم في فضاءٍ رحب، بعيدًا عن بيروقراطية النشر المحكومة بمعايير صارمة، تتذيلها الفكرة، وتتقدمها الولاءات، وبين هذا وذاك، حديث فضفاض عن المهنية والأخلاق والمعايير والقوانين الناظمة للنشر.
اقرأ/ي أيضًا: مقالي ممنوع من النشر.. ما العمل؟
على أن هذا النقاء لم يدم طويلاً، إذ شمّر "المحافظون" عن زنودهم، وتفطّنوا إلى البساط الوثير الذي يسحب من تحت أقدامهم، فخفت صوت طبول التهليل والتملّق والاصطفاف، لصالح نقراتٍ هادئةٍ على كيبوردات حديثة، استحضرت شروطها المنفلتة من أي ناظم استمات التقليديون في محاولة الإمساك به.
في الأدب العربي، كانت هناك معايير صارمة، تلفظ كل من يحاول الخروج عليها. صحيح أنها محاولاتٌ لم تنجح في كبت أصوات "الثائرين"، لكنها كانت قادرة على طردهم من رحمة القبيلة، ولنا في "الصعاليك" مثالٌ حي، إذ كانت حياتهم وأشعارهم قادرة على خدش النظام والتشويش عليه.
لقد ظلت الحرية غاية المنى، في الشعر والسياسة والاجتماع، ولم تنجح كل محاولات تدجينها، وصار دعاتها أكثر توقًا لممارستها، مقابل استشراسٍ بشعٍ من "المؤسسة" في تخفيض سقفها، لتظل في متناول يدها، فهي حريةٌ مفصلةٌ على مقاس وعيها، وبما يتناسب مع شروط نفوذها.
الحرية اليوم محكومةٌ بمقدار ما يسمح به النظام، أي نظام أنت جزء منه. والمس بما يراها المجتمع محرماتٍ بأظافر الرأي، يستدعي أنيابًا مسنونة تقصّ هذه الأظافر، بالتضييق والتخويف والتهديد والاعتقال.
إن الرقابة الذاتية التي يحتكم إليها الناشرون في وسائل التواصل الاجتماعي فرضت قيودًا أشد صرامةً من القوانين التي تتفتّق عنها عقليات رجال الأمن، وبدا أن الحرية المنشودة وهمٌ كبير، أو هي وحل، كلما حاول أحدٌ الإفلات منه، غاص فيه أكثر، ليعود الصمت ملاذًا آمنًا، وربما وحيدًا.
إنك اليوم تحسب حسابًا للعائلة والمجتمع والعسس، وتفكر ألف مرة قبل أن تقول قولاً تندم عليه، فينهال عليك "الذباب" من كل حدب وصوب، ليتحول النقر الهادئ على الكيبورد، إلى حالة توتر مرَضية، فتشذب فكرتك، حتى تتحول إلى مداعبةٍ ناعمةٍ لسائد الرأي، فلا تخرج عن "القبيلة"، وتطرد من رحمة "النظام".
الصمت اليوم مخدة ناعمة مليئة بالكوابيس، والقول سريرٌ من مسامير مدببة تأكل جسدك
الصمت اليوم مخدة ناعمة مليئة بالكوابيس، والقول سريرٌ من مسامير مدببة تأكل جسدك، "فعلى أي جانبيك تميل".
لقد أنفقت 400 كلمة، وأنا أحاول التحدث عن الحرية، وأخشى أن أنحاز إلى الصمت، طلبًا للسلامة!
نحن نعيش وهمًا كبيرًا بالحرية، بدّدت جماله قيودٌ تشتدّ يومًا بعد يوم، وثمة تهمٌ جاهزةٌ وأحكامٌ مسبقة، لها اليد الطولى في تشذيب رأيك، كي تعيد النظر في مثالية "الرأي قبل شجاعة الشجعان".
وأمام نجاح هذه القيود في تدوير الزوايا التي كانت ملاذًا معقولاً لكل المغردين خارج سرب القبيلة، لا يمكن لأصحاب الرأي إلا المحاولة، فالصوت الحر لا يقبل بالكبت خيارًا، ولئن قصّت أظافره، فعليه أن يقاتل بأنيابه، وليكن الصمت ساعتها إكراهًا لا خيارًا.
اقرأ/ي أيضًا: