25-أبريل-2019

أعرف أن هذا مفهومٌ يُصعبُ المطالبة به في مواجهة سحر الاتصالات على الانترنت، فالانترنت هو المتعة التي اكتشفها القرن العشرين وصارت أهم من الرغبة الأولى لدى كثيرين. ولكن بقليلٍ من النكد والكآبة يطرح باحثون هنا وهناك موضوع الحق في المجهولية كحقٍ للإنسان في أن يبقى وحيدًا في عالم خانقٍ ومهيمنٍ من صناعة الانترنت الذي خُلِقَ أصلاً وبرر نفسه كحلٍ عبقريٍ لصناعة الاجتماع البشري من الاتصال والتواصل والتفاعل وصناعة الرأي وشراء القمصان والبيع وممارسة الحب والتلصص على آخرين والضحك على ضحكهم أو البكاء على بكائهم أو معرفة ألوان كراسي مطبخ أو أية تعليقات على جدران غرف جلوسهم. هكذا في عملية نهمٍ اتصالي ابتلع كل معلوماتنا.

هذا الانكشاف الكامل للفرد في الانترنت ومنصات التواصل صار الصناعة الكبرى للشركات والحكومات

هذا الانكشاف الكامل للفرد في الانترنت ومنصات التواصل صار الصناعة الكبرى للشركات والحكومات، فهؤلاء تركوا التنقيب عن النفط، وينقبون الآن عن المعلومات "data mining"، والذكاء الصناعي صار الأداة الأكثر دخولاً على تخصصات الاقتصاد والتسويق والصحافة والإعلام وغالبية الحقول الاجتماعية ذات الخاصرة الرخوة.

اقرأ/ي أيضًا: أخلاقيات طائرات درونز

لوغاريتماتٌ بسيطةٌ من مطورين هنا أو هناك قادرة على تصنيف رغباتنا التصفحية، وخارطة تجوال أصابعنا على الشاشات الذكية، وألوان ملابس البحر التي نحب، وأنواع الاجسام التي نتابع، وبعد التصنيف تبيعنا هذه الخاصية عراة تمامًا لشركاتٍ وخبراء تسويق يُقلّبون غطاء رؤوسنا وغطاء رؤوس هواتفنا الغبية، فنصير نتجول في سجنٍ صغيرٍ تديره لوغاريتماتُ مطورين أوغاد، ومهارات مسوّقين سفلة باعونا لفريقين: إما للشركات التي ستصيبنا بـ"فتشيات" تسوّق مجنونة، أو لحكوماتٍ وأجهزة أمنٍ وجيوشٍ قادرةٌ على تركيع كل رغبةٍ في حريةٍ أو كفاح أو نضالٍ تحرري فينا.

مرة وقفت في قاعة فندق في رام الله مع مركز "حملة"- المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، وبالكاد عرفت أن أُنظّر حول الحق في المجهولية أمام طاقاتٍ شبابيةٍ هائلةٍ من "الانترنتّيين" والاتصاليين والمؤثرين.

ضحك الناس من "هبلي" عندما طالبت بعودة "حارس الليل، وفارس الأحلام، والوردة الحمراء، وأبو سروال، وصديقة الكون" إلى صفحات التواصل الاجتماعي. أعرف أن هذا سيبدو تهريجًا من قبلي بعد سنواتٍ من المطالبة بمحاربة هذه الظاهرة، لحماية النساء والرجال من الابتزاز الالكتروني والتنمر والتحرش، لكن واضحٌ أننا بعد سنواتٍ من الانكشاف الكامل على الانترنت بتنا بحاجةٍ إلى الخصوصية، بحاجةٍ إلى الحق في تشفير الذات، والحق في التمدد وحيدًا أو "بشورت" قصيرٍ وسط واقعٍ افتراضيٍ صار أكثر واقعية من الواقع الواقعي.

واضحٌ أننا بعد سنواتٍ من الانكشاف الكامل على الانترنت بتنا بحاجةٍ إلى الخصوصية

هذه الفكرة لازمتني منذ أن أدرت جلسة مع مجموعةٍ من الشباب حول انتهاك أجهزة الأمن الإسرائيلية للحقوق الرقمية، وتحديدًا للفلسطينيين في القدس والأراضي المحتلة عام 1948، وتشجعت آنذاك وطلبت من شبابٍ رياديين -كانوا في دورة تدريبية- الاختفاء إلكترونيًا، وتشفير رقم الحاسوب الذي نشتريه، وتزوير بطاقة تعريف هواتفنا الجوالة، وعدم وضع أي معلومة تعريف صحيحة لأي جهاز إلكتروني نشتريه.

من أين جاء هذا الخراب إلى عقلي بعد أن كنت أشد المتحمسين لشيئين في الحياة: الربيع العربي والتواصل الاجتماعي؟

جاء من الاحتلال، أقسم بالله العظيم أنه جاء من الاحتلال! ومن الرغبة في إتاحة الحب الإلكتروني للأجيال الجديدة، الأجيال العربية بالتحديد، أريد أن يشفر الناس معلوماتهم على الانترنت كي يصنعوا تكتيكاتٍ ثوريةٍ ومصفوفات تحوّلٍ اجتماعيٍ وتغييرٍ صعبٌ اكتشافها، مثل كلمات سر الخلايا في العمل الثوري التقليدي، كأن تجلس في مجموعة ملثمين لخليةٍ ثوريةٍ إلكترونية، وأن تختفي إلكترونيًا، وتفتح كل يوم بريدًا إلكترونيًا أو حساب تواصلٍ اجتماعيٍ تصنع فيه عالم فكرك الثوري الاجتماعي، مكانٌ تُنظِر فيه لأفكارٍ ممنوعة، وتتظاهر وتقاوم وتنتقد وتتحدى رجال الأمن والقوانين السافلة، وتخنق الشارع إذا استكان، وتدل الناس الميتين على طرق موتٍ أفضل وهكذا. ربيعٌ اتصاليٌ عادلٌ وطاهرٌ ينتصر على "اغترابنا" في آلة الاتصال كما يقول الجد المحترم ماركس.

أدعو إلى مجهوليةٍ تُحقق صفةً خاصةً للفلسطيني في انتفاضةٍ إلكترونيةٍ ليست هي آخر المطاف، بل إحدى الجبهات التي يظل فيها واقفًا على قدمية وقادرًا على السريّة التي يحتاجها كل عقلٍ أو شاب "تغييري" كي يقاتل في ظل العلنية الغبية التي صار البشر فيها عراة تمامًا.

أعرف أن هذا لن يروق لكثيرين، لكن اسمحوا لي أن أرفع لواء هذا المطلب العجيب الغريب، من أجل الثورة ومن أجل الحب بشكل أولي، ولاحقًا سنحتاجه لباقي مشترياتنا وضحكاتنا وتملصنا من الديون الإلكترونية وهكذا.


اقرأ/ي أيضًا:

زمنٌ إعلاميٌ رديء

هيئات الدولة أم الفيسبوك

في المواطن اللاسياسي