04-مايو-2019

منذ سنواتٍ انقلب حال الإنتاج الصحفي أو الاتصالي، وانتقل من العموم المشتهى، إلى الفردية المطلقة، والعملية صارت منحصرة في منتجٍ واحدٍ لمستقبلٍ واحد، ولا حدود بينهما ولا تنظيمات مهنية ولا خلافه.

وهذا التضيّق في معادلة الاتصال رغم خاصية التفاعل المفتوحة حوله إلا أنه أنتج مرسلاً "يسمونه مبدعًا" متحللاً من أية أخلاقياتٍ أو التزاماتٍ معرفيةٍ أو معنويةٍ تجاه الثقافة العامة، وأنتج مستخدمًا كسولاً لا يتحرك فيه سوى يده التي تمسك بالأجهزة والشاشات الذكية، وغالبًا ما يصاب هذا المستخدم بآلام الكوع التنسي والشد العضلي بسبب كثرة استخدام الأجهزة وهو نائم أو أثناء نسيانه نفسه في الحمام، أو عندما يكون ملقى به على كنبايةٍ بعيدةٍ متروكًا بلا أي تواصلٍ مع محيطه الواقعي.

شبكات الاتصال الأقوى حاليًا هي تلك المعتمدة على الإنتاج والاستخدام المعتمدان على خاصيتين: "الفردية في الاتصال والاستقبال، والتفاعلية حول المنتج"

شبكات الاتصال الأقوى حاليًا هي تلك المعتمدة على الإنتاج والاستخدام المعتمدان على خاصيتين: "الفردية في الاتصال والاستقبال، والتفاعلية حول المنتج"، ورغم البلاغة الوظيفية للخاصيتين، إلا أنهما تخفيان الكثير من الإنتاج "المزيف" والتفاعل الشعبوي غير المنتج لأية قيمٍ اتصاليةٍ يعتد المرء بها.

اقرأ/ي أيضًا: الحق في المجهولية

هناك تطبيق جديد بدأ يرتع في عقولنا هو "تيك- توك"، مضحكٌ ومفرحٌ ومليءٌ بالتسلية والطاقة الراقصة والرغبة في الضحك ويحذف أية دموعٍ أو أحزان، فيه مداعباتٌ ومواعداتٌ مراهقةٌ وأبطاله شبابٌ من الجنسين وعلى الأغلب هم في أقوى مراحل النمو الفسيولوجي للجسد، يرقصون ويضحكون ومتابعتهم تتحول إلى إدمان.

المخترع الذي ننتظر أن تقدم له صناعة الإعلام سيرة عبقرية توازي سيرة مارك زوكنبيرغ مخترع الفيس بوك، مخترع التيك توك هو الصيني تشانغ ييمينغ، وبعد ثلاثة أعوام من الانطلاق بدأ رأس امبراطورية الإعلانات التجارية يطل بين فيديوهات التطبيق الجديد. وواضح أننا إزاء ماسورة عولمية جديدة لشفط مال الإعلانات من الأسواق المحلية الى دولة مركز.

ماذا ينتج أبطال الـ"تيك- توك"؟ فيديوهاتٌ قصيرةٌ لا تتجاوز نصف الدقيقة، مبنية على تسجيلاتٍ صوتيةٍ وموسيقى مأخوذةٍ من مسرحيين أو مغنيين أو راقصين أو تائهين بالصدفة في التواصل الاجتماعي، تلصص أحدهم على اتصالاتهم الهاتفية البريئة ليتم تحويلها إلى محطة مساخر وتندر من قبل ملايين المستخدمين.

ومن يظهرون في الفيديوهات يقلدون أصواتًا فقط، أو يقلدون رقصات، أو يحركون شفاههم لتتطابق مع كلمات التسجيل الصوتي، وللوهلة الأولى أنت كمستخدمٍ ترى في الفيديو تسلية عالية وقدرة مذهلة من قبل الولد أو البنت الظاهرين في التسجيل، ولكن لو حللنا قليلاً فسنجد أن الموضوع تقليدٌ بائسٌ أو ترديدٌ أهبلٌ للحظة ليست لصاحبها الذي يظهر على الشاشة.

قد يكون هذا ذروة التسلية، وأنا شخصيًا بدأت أدخل في هذا الإدمان، ولكني أحاول أن أكتب عنه حتى لا نغطس فجأة في تطبيقٍ اتصاليٍ سيغرقنا في اللبس والحيرة المعرفية والتحليلية لاحقًا، كما فعل بنا الأستاذ تويتر أو الدكتور فيس بوك.

السيد الإلكتروني الجديد، تطبيقٌ أكثر منه منصة أو شبكة تواصل، وتنظيمات الخصوصية عليه معدومة، فالناس يظهرون على شاشتك دون أن تطلب صداقتهم، وفي أي لحظة قد تصدمك مضامين جنسية أو غير أخلاقية على هذا الحامل الاتصالي "الهامل"، فهو مليءٌ بالشعبوية وخطاب الكراهية والعنصرية والمخالفات غير الآدمية التي قد تقع معك فجأة مع أي حركةٍ عفويةٍ لأصابعك اللطيفة على الشاشة.

أعرف أن جيوبًا ثورية كثيرة في الاتصال الحديث تتملص من الاتصال التقليدي، وأن رغبات الاستهلاك البصري الجديدة الجمالية والتسلوية تريد هذا المستوى من البراءة والعفوية والشعبوية والصعلكة والخفة والرداءة. أعرف هذا، ولكن هذا لا يعفينا نحن الحرس القديم في اللجنة المركزية لحزب الإعلام التقليدي أن ندخل الموضوع بقدمنا اليسار، وأن نظل حذرين من ميولٍ استهلاكيةٍ كثيرةٍ قد يستغلها المصنع والآلة على حساب الإنسان وإنسانيته.


اقرأ/ي أيضًا: 

أخلاقيات طائرات درونز

زمنٌ إعلاميٌ رديء

أعود لأكتب