11-ديسمبر-2017

خلق الأسطورة

"فبعد أن ظنّ هؤلاء الشياطين أن بعدهم عن العالم سينقذهم من الانتقام، استطاع الله أن يحدد مكانهم ويكتشفه، وأرسل قديسيه الأبطال من إنكلترا، وأرسل معهم بعض الأوبئة السماويّة القاتلة التي طهرت الأرض منهم. إن الله يفسح مكاناً لشعبه في هذه المجاهل، إذ هو يقتل الهنود بأوبئة من أنواع مدمّرة لا يعرف لها البشر مثيلاً إلا ما تحدثت عنه التوراة"، كوتون مذرز، قسّ بيوريتاني، ومؤلَّف سياسي واجتماعي.

أمام جمع غفير من مستوطني مستعمرة مساشوستس، يقف جون وينثروب، أول حاكم لهذه المستعمرة الأمريكية، وبعد أن "هاجر" هو وآخرين معه من أوروبا إلى أمريكا عام 1630، وقاموا بتأسيس هذه المستعمرة التي أطلق عليها لقب: "مدينة فوق الهضبة"، خطب في المستعمرين المتحلّقين حوله: "إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشر منّا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندها سيعطينا الرب مجده وأبّهته، وعندما يتوجّب علينا أن نجعل من نيو إنغلاند مدينة فوق هضبة". ما زال تعبير المدينة فوق الهضبة رائجاً في خطب الرؤساء الأمريكيين حتّى اللحظة. وهذه الخطبة، ليست إلا تجسيداً خطابياً لروح الاستعمار الأوروبي لأمريكا الشمالية، وكانت الجوهر الكامن لفكرة: "أرض كنعان الإنجليزية/ وإسرائيل الجديد".

خطبة وينثروب أمام مستوطني مستعمرة مساشوستس الأمريكية ليست إلا تجسيداً خطابياً لروح الاستعمار الأوروبي لأمريكا الشمالية، وكانت الجوهر الكامن لفكرة: "أرض كنعان الإنجليزية/ وإسرائيل الجديد".

أسست جماعات المستعمرين الأوائل لما عرف فيما بعد بـ"عقيدة القدر المتجلي". وما قصد بالقدر المتجلي، هو قدر أمريكا الحتمي في التوسع، وفي الحلول محلّ الآخر البربري/ الهمجي. وتعود أصول هذه العقيدة إلى إيمان المستعمرين الراسخ بأنهم "يهود الروح"، أي البروتستانت الأنكلو ساسكون البيض. هؤلاء الذين هاجروا هرباً من ظلم "فرعون لندن"، في إشارة إلى الصراع الديني الذي ساد في نهايات العصور الوسطى في أوروبا وبدايات عصر التنوير بين الكاثوليك والبروتستانت، وخرجوا من "إنكلترا/مصر" إلى "أرض كنعان/أمريكا"، كي يجسّدوا هناك مملكة الربّ في السماء على الأرض، في المدينة فوق الهضبة في إشارة إلى أورشليم القدس في الروايات التوراتية.

اقرأ/ي أيضاً: مئة عام من عزلة اللغة في مواجهة وعد اللغة البيضاء

لقد آمن المستعمرون أن "يهوه" إله العبرانيين في العهد القديم سيرعى هذه المملكة، وسيقود حربها وحرب إبادة الكنعانيين كما فعل في التوراة، لإبادة السكّان الأصلانيين في أمريكا الشمالية. وكي يتمّ هذا الأمر، على المستعمرين ومن واجبهم إبادة السكان الأصلانيين/ الكنعانيين، وأن يقيموا دعائم مملكة الله على الأرض ويحافظوا على عهدهم مع "يهوه" إله العبرانيين، بالمزيد من التوسّع في اتجاه الغرب ليجسّدوا عقيدة القدر المتجلّي، والتي يصفها السيناتور هارت بنتون في خطاب له أمام مجلس الشيوخ عام 1836، بقوله: "إن قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنها مثل عصا هارون التي صارت أفعى وابتلعت كل الحبال.. ذلك هو قدرها المتجلّي، أعطها الوقت وستجدها تبتلع في كلّ بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا، ذلك هو معدل توسعها". 

على شواطئ المتوسط، في العالم القديم وفي أرض كنعان الحقيقيّة، يكتب جابرييل بيتربرج عن ثلاثة أساطير أسّست للحركة الصهيونية والاستعمار الصهيوني في فلسطين، ملخّصاً إياها في ثلاثة عناوين رئيسيّة، وهي أولاً: نفي المنفى، وثانياً: العودة إلى أرض إسرائيل، وثالثاً: العودة إلى التاريخ. وكما تجسّدت التوراة وتداخلت في ادعاءات مستعمري أمريكا الشمالية عن أنفسهم وروايتهم التاريخية وحقّهم المقدّس في إبادة الهنود الحمر، كان ذلك أيضاً في الرواية الصهيونية.

نفي المنفى، تدعي هذه الأسطورة حقيقة تاريخية أساسية في الوعي الصهيوني، وهي أن اليهود كانوا ذات يوم "أمّه ذات إقليم محدّد"، وتشكّل هذه الأسطورة حلقة وصل ما بين التاريخ القديم حيث كان اليهود يسكنون فلسطين، وما بين الحاضر حيث عاد اليهود ليسكنوا فلسطين مرة أخرى.

تدّعي الأسطورة أن حالة المنفى التي استمرّت بين الخروج اليهودي الأخير من الأرض وما بين العودة إليها، ليست إلّا حالة انتظار للخلاص الصهيوني وللعودة. ومن خلال هذا الادعاء، تؤسس الحركة الصهيونية، لما سمّي فيما بعد قيام الدولة، بالأمة اليهودية ويهوديّة الأرض في آن واحد. إذ أن الأسطورة الثانية، وهي العودة إلى أرض إسرائيل، تقول بأن الأرض مثلها كساكنيها، قد كانت أيضاً في حالة منفى عن ساكنيها "اليهود"، وقد استعادت الأرض معناها المقدّس مرة أخرى، حينما عاد اليهود إليها.

يقول بيتربرج عن هذا المعنى، إن القادة الصهاينة عندما أطلقوا شعار "شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب"، لم يقصدوا تماماً، أو أنهم كانوا يجهلون حقاً وجود شعبٍ في هذه الأرض، بل المعنى أعمق من مجرّد الجهل. لقد قصد منظّرو الصهيونية الإشارة إلى حالة المنفى التي تعيشها الأرض، وكما وهبت أرض كنعان هي وساكنيها لشعب إسرائيل في التوراة، فقد وهبت فلسطين أرضاً وساكنيها الفلسطينيين ليهود هذا العصر. وبكلمات أخرى: قد رأت الحركة الصهيونية في شعب فلسطين، كائنات طبيعية همجيّة تنتمي للأرض تماما كالحيوانات، وتماماً كما رأى الاستعمار الأوروبي في سكّان أمريكا الأصلانيين، كائنات طبيعية/ كنعانية همجيّة.

رأت الحركة الصهيونية في شعب فلسطين، كائنات طبيعية همجيّة تنتمي للأرض تماماً كالحيوانات، وتماماً كما رأى الاستعمار الأوروبي في سكّان أمريكا الأصلانيين، كائنات طبيعية/ كنعانية همجيّة.

تكاد كلتا الروايتان الاستعماريّتان، الصهيونية والأمريكية، تكونان رواية واحدة، يتبادل فيها المستعمر الإنجليزي والصهيوني، تاريخاً من الأساطير، أساسها هو الحقُّ الإلهي، التاريخي، الحضاري، في الغزة والاستعمار. وجوهر الرواية، استبدال شعبٍ بشعب، وثقافة بأخرى، واجتياح أرض الآخرين تحت استعارات دينية، تؤكّد الحق الإلهي لهذا الشعب أو ذاك، وتحت مبررات حضاريّة تدّعي التفوّق البشري الأوروي على الهمجيّ الأصلانيّ عربياً كان أم هندياً، وبضرورة تقدم الحضارة.

هذا الجزء من الرواية الاستعمارية، يؤسس لبنائها الأسطوري، الذي سيشرعن فيما بعد، حق القتل والاستباحة.

 حقّ القتل

"كنَّا نقصُّ علَيهم قصص داوود وغوليات، ونروي لهم، كيف فلق الله البحر للإسرائيليين، ولماذا أمر بذبح الفلسطينيين، ونأمرهم باحترام السّبت"، التقرير السنوي لمفوّضية الشؤون الهنديَّة لعام 1887.

في بداية القرن التاسع عشر، أوصى توماس جيفرسون، ثاني رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، بإبادة الهنادرة ونفيهم إلى أبعد مدى ممكن، ومن بعده قال ثيودور روزفلت عبارته الشهيرة: "لن أذهب إلى حد قول أن هندياً طيّباً هو هندي ميت. لكنها في الواقع حال تسعة من كل عشرة منهم، ولن أضيع وقتي مع العاشر".

بالنسبة لبعض المؤرخين، فإن "إبادة جماعية" قد وقعت في أمريكا الشمالية والجنوبية لما يقارب المئة وخمسة عشر مليون إنسان، لم تتوقّف على إبادة الأجساد، بل شملت كذلك التاريخ والثقافة واللغات الأصلانية. وقد رأى البعض، أن وصف "المحرقة الأمريكية" هو الأليق بهذه المذبحة التاريخية. وما هو ثابت تاريخياً، في الأدبيات الخاصة بتاريخ الاستعمار الأمريكي كما الصهيوني، هو أنّ الأصلانيين، في أمريكا الشمالية وفي معظم أنحاء العالم كما فلسطين، قد تمّ اعتبارهم كائنات ضارة، بربرية وأدنى من البشر الطبيعيين، ولذلك فقد توجّب القضاء عليهم في محرقة الرجل الأبيض التي ما زالت مستمرة منذ قرون وحتى حاضرنا هذا.

في الأدبيات الخاصة بتاريخ الاستعمار الأمريكي كما الصهيوني، تم اعتبار الأصلانيين، في أمريكا الشمالية وفي معظم أنحاء العالم كما فلسطين، كائنات ضارة، بربرية وأدنى من البشر الطبيعيين

حق القتل وحق التضحية بالآخر، هو الحق الذي آمن المستعمرون في أمريكا الشمالية بأنهم يملكونه على هذه المخلوقات الهمجية التي لم يفرّقوا بينها وبين البهائم، وقد تطور هذا الحق فيما بعد إلى حق الحضارة بالتوسع والاتجاه غرباً وسحق أي "آخر" يعارض هذا التقدم الحضاري. لقد تطور الحق من مجرد وعد إلهي، فوق سفينة "آربيلا" الأسطورية وقسُّها الشهير جون وينثروب، والعهد الذي أقامه المستعمرون بينهم وبين "يهوه" إله العهد القديم في إقامة مملكة كنعان الجديدة فوق المدينة التي فوق الهضبة، إلى ما يشبه "الدين المدني" في أمريكا العصر الحديث".

اقرأ/ي أيضاً: عن الأدمان والسقوط في الزمن وخيانة عرفات

هذا الدين المدني الجديد، القديم المتجدد، هو الذي يقول بحق أمريكا في السيادة على العالم، وهو عقيدة القدر المتجلّي التي تدّعي أن قدر أمريكا بدأ مع رحلة السفينة الأسطورية والتوسع باتجاه الغرب، إلى أن أصبحت امبراطورية. وقد تطور هذا المفهوم إلى أن أصبح له دعائم نظرية ومبررات أبرزها نظرية الجغرافيا الحيوية"، التي تقوم على أنّ المكان الجغرافي للدولة المتفوقة هو كائن حي ينمو باستمرار ولا يموت، وأن "يد القدر هي من ترسم حدود هذه الدولة وتقودها إلى حيث تريد"، أي ببساطة، العالم كلّه هو مجاهل أمريكا غير المكتشفة بعد ولها الحقُّ في غزوه.

وعن منطق المجاهل ذاته، يكتب بيتربرج عن الأرض الفارغة من الفلسطييين بالنسبة للحركة الصهيونية، أنّها لم تكن فارغة منهم وحسب وقد كانوا كائنات طبيعية فيها وحسب، بل كانوا كائنات طبيعية ضارّة، كما كان الكنعانيون في التوراة وحوشاً ويشكّلون هم والأرض إحدى هبات يهوه إله العهد القديم لشعبه المختار، ومن واجب الإسرائيليين إبادتهم أو ترويضهم لخدمتهم.

الزعيم رسل مينز

عن هذا المنطق في تبرير القتل، يكتب رسل مينز، الزعيم والناشط الأمريكيّ الأصلانيّ الهنديّ، الذي يكاد يشبه مثقفاً فلسطينياً يقف على تخوم صبرا وشاتيلا أو كفر قاسم، أنّ الأوربيين قاموا دائماً وأبداً بتفريغ الكون من روحه وتحويله إلى عالم ماديّ رياضيّ، وفي هذا الكون الماديّ، ومن خلال المنطق ذاته الذي حصلت عمليّة التحويل هذه داخله، ما زالوا يقومون بتحويل الآخر إلى أقل من إنسان، ويكتبُ: "عندما كانت إحدى وصايا المسيح أن لا تقتل: البشر على الأقل، فقد قاموا بتصوير الهنود وغيرهم إلى كائنات غير بشرية، وصار من الواجب قتلها، بل إن قتلها يعدُّ فضيلة في حد ذاته".


اقرأ/ي أيضاً: 

بهذه البساطة: إنها أرضنا

فلسطين في عيون أهل بكين.. يا للهول

فضائيات الجامعات: حداثة التجربة وإشكالياتها