نجت الطفلة رغد من تحت أنقاض منزل في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، دمرته غارة جوية إسرائيلية فوق رؤوس ساكنيه وحولته إلى كومة من الركام والحجارة والمتناثرة.
وكانت رغد، 10 أعوام، لجأت مع أسرتها (6 أفراد) إلى هذا المنزل، بعد نزوحهم القسري مرات عدة من منزلهم في منطقة السطر الغربي في مدينة خانيونس في جنوب القطاع، على وقع عمليّة عسكريّة إسرائيليّة بريّة، واجتياح المدينة في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي.
كان وقع سيطرة جيش الاحتلال على معبر رفح وإغلاقه أمام حركة المسافرين من المرضى والجرحى ثقيلاً على المواطنين، كونه المنفذ الوحيد لـ 2.2 مليون فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير نحو العالم الخارجي عبر مصر.
وفي السادس من مارس/آذار الماضي، كتب القدر لهذه الطفلة النجاة مع شقيقها محمود، 15 عامًا، ووالدهما أحمد حماد، فيما استشهدت والدتهما آمنة مع ابنتها رهف، 17 عامًا، وابنها محمد توأم محمود، ويقول أحمد لـ "الترا فلسطين" وقد سبق ابنته بالنجاة من تحت الركام: "كان لإنقاذ رغد حكاية إعجاز، فقد ظلت عالقة تحت أنقاض المنزل المدمر لأكثر من 12 ساعة قبل أن تتمكن فرق الإسعاف والدفاع المدني من إنقاذها".
واستشهد في تلك الليلة الدامية 23 فردًا من بينهم 13 طفلًا، جراء غارة جوية نفذتها مقاتلة حربيّة إسرائيليّة على منزل شقيقة زوجة أحمد في مدينة دير البلح، المكون من طابقين، ويسكنه 32 فردًا من أصحاب المنزل وأسر نازحة لديهم.
عودة من الموت
عادت رغد إلى الحياة بإصابات جسديّة تستدعي العلاج في الخارج، وذلك كي تتمكن من السيّر بشكل طبيعي على قدميها من جديد، غير أن اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي لمعبر رفح البري بين قطاع غزة ومصر والسيطرة عليه، يحول دون سفرها وآلاف الجرحى والمرضى والحالات الإنسانية في القطاع للخارج لغايات مختلفة، أبرزها العلاج في ظل التدمير الممنهج الذي مارسه الاحتلال ضد المستشفيات والمرافق الصحية منذ اندلاع الحرب.
كان وقع سيطرة جيش الاحتلال على معبر رفح وإغلاقه أمام حركة المسافرين من المرضى والجرحى ثقيلاً على أحمد وطفلته رغد، كونه المنفذ الوحيد لـ 2.2 مليون فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير نحو العالم الخارجي عبر مصر.
ويخشى أحمد على مستقبل طفلته رغد، وتأثير الإصابة على حركتها، إذا تأخّر سفرها للعلاج في الخارج، حيث يواصل جيش الاحتلال السيطرة على المعبر في سياق عملية عسكرية برية بدأها في مدينة رفح في 7 مايو/أيار الجاري، ويقول: "خسرت نصف أسرتي شهداء، ولم يبق لي سوى رغد ومحمود ولا أريد أن أخسرهما، وأنا نفسي مصاب بالأعصاب وفقرات الظهر وبحاجة للعلاج، نتيجة الغارة الجوية وانهيار المنزل فوق رؤوسنا".
وبحسب هيئات رسمية فإن غالبية المستشفيات، من بين 36 مستشفى على مستوى القطاع، خرجت عن الخدمة بفعل تعرضها للاستهداف المباشر، أو لعدم توفر الوقود والأدوية، أو بسبب إجبار إدارتها وطواقمها على إخلائها، كما حدث مع مستشفى أبو يوسف النجار الحكومي الوحيد ومستشفيات أخرى أهلية وخاصة في مدينة رفح.
ولدى أحمد حكاية حزن مركبة، فقد خرج وطفليه رغد ومحمود من تحت الأنقاض، واستشهدت زوجته مع اثنين من أطفالهما، فيما لا يزال أصغر أطفاله هادي، 5 أعوام، مفقودًا تحت الأنقاض ولم يتم العثور على جثمانه، وبنبرة يعتصرها الحزن يقول: "أريد النجاة برغد ومحمود، لا أطلب سوى العلاج، فهل هذا كثير؟".
وعاش أحمد مع أسرته ويلات الحرب منذ اندلاعها حيث أجبروا على النزوح 4 مرات، انتهت بمصابه الجلل، ويقول: "لدى تحويلة طبية لمرافقة رغد للعلاج بالخارج، لكن الاحتلال سبق سفرنا باحتلال المعبر ولا أحد يعلم متى تنتهي عمليته في رفح ويعاد فتح المعبر من جديد، ونتمكن من السفر لإنقاذ مستقبلها وعلاجها كي تتمكن من السير الطبيعي".
إعدام مرضى
تشدد دولة الاحتلال من حصارها المطبق على القطاع، وتحرم المرضى والجرحى من السفر للعلاج، وبحسب بيانات رسمية للمكتب الإعلامي الحكومي فإن 11 ألف جريح، و10 آلاف مريض بالسرطان وأمراض مزمنة، ومن بين الجرحى والمرضى آلاف الأطفال، بحاجة ماسة للسفر والعلاج بالخارج.
ويقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة لـ "الترا فلسطين" إن من شأن احتلال معبر رفح واستمرار اغلاقه تعميق الكوارث الإنسانية والصحية التي يعاني منها القطاع على مدار 8 شهور بسبب حرب الإبادة الجماعية، وهو بمثابة حكم بالإعدام على الغزيين سواء المرضى الذين لن يتمكنوا من السفر للعلاج أو بقية السكان نتيجة توقف إدخال المساعدات الإنسانية.
وبحسب الثوابتة فإن أعداد قليلة جدًا من المرضى وجرحى حرب الإبادة، تمكنوا من السفر للعلاج منذ ما بعد الهدنة المؤقتة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وبوتيرة بطيئة جدًا، وفي أحسن الأحوال لم يسافر أكثر من 40 جريحًا ومريضًا في اليوم الواحد.
وما يزيد من خطورة إغلاق المعبر على الجرحى والمرضى، وفقًا للثوابتة، هو واقع المستشفيات في القطاع التي خرج 33 منها عن الخدمة، من بينها مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي الوحيد الخاص بمرضى السرطان، و55 مركزًا صحيًا، إضافة إلى استهداف 160 مؤسسة صحية، ما يثبت أن القطاع الصحي تعرض لخطة تدمير إسرائيلية ممنهجة.
مرضى الكلى
وتعصف المخاطر بمرضى الكلى على إثر العملية العسكرية البرية في مدينة رفح، وخروج مستشفى أبو يوسف النجار عن الخدمة، وهي التي كانت تقدم خدمة غسيل الكلى لأكثر من 500 مريض يوميًا.
ويقول مدير المستشفى ورئيس لجنة الطوارئ الصحية بالمدينة مروان الهمص لـ "الترا فلسطين": "رغم أن وحدة الغسيل بالمستشفى متهالكة، وتمتلك 18 جهازًا قديمًا إلا أن أعداد المرضى المستفيدين منها يوميًا ارتفع من 110 قبل اندلاع الحرب إلى 525 مريض جراء النزوح الكبير للمدينة، قبل إجبار الاحتلال سكانها والنازحين فيها على مغادرتها".
ويصف الهمص الواقع الصحي على مستوى القطاع بأنه "كارثيّ"، وقال إن المستشفيات القليلة التي لا تزال تعمل، تكافح من أجل البقاء ولو بالحد الأدنى، في ظل افتقارها للأدوية والمستلزمات الطبية، وفي ظل ضغط هائل يفوق قدرتها السريريّة.
وكان الموت أسرع من أن تحقق هبة أبو شومر أمنيتها بعلاج والدتها السبعينيّة، وتقول لـ "الترا فلسطين": "عانيت في رحلة النزوح بوالدتي من شمال القطاع إلى مدينة رفح، ولم أجد لها العلاج في مستشفيات رفح الصغيرة، وحتى بمستشفيات خانيونس المكتظة بالجرحى والمرضى، حتى وافتها المنية داخل خيمة".
وكانت والدة هبة وتبلغ من العمر، 71 عامًا، تعاني من الفشل الكلوي، وبالنسبة لهبة فإنها لو وجدت العلاج المناسب في المستشفيات المحلية أو خارج القطاع "لكانت الآن إلى جانبي، لكنها إرادة الله أن تموت بعيدًا عن بيتها في جباليا، الذي تركته مجبرة بسبب جرائم الاحتلال".
ودفنت هبة والدتها في مدينة رفح، ونزحت مع أكثر من مليون فلسطيني من المدينة على إثر العملية البرية، وتتمنى لو أن والدتها تكون آخر الضحايا من المرضى، وأن يتمكن مرضى غزة من السفر للعلاج بالخارج بغية إنقاذ أرواحهم من موت محتم في ظل واقع صحيّ كارثيّ.