"اللي مش أوانه يا هوانه"، "مهو هادا ابن الكبير"، "ابن الكبر والشيب" أمثال شعبية يتداولها المجتمع الفلسطيني في إشارة لأبناء كبار السن إما أنهم من المظلومين، أو أن لا سيطرة عليهم، فهل فعلًا أبناء كبار السن سند لآبائهم أم مظاليم؟
نحو 13 ألف طفل في غزة، يتجاوز فرق العمر بينهم وبين آبائهم الـ50 عامًا!
"أخجل عندما يسألني أحدٌ عن ابنتي الصغيرة ريماس (7 أعوام)، وخاصة حينما أذهبُ بها إلى العيادة، فأقول بأنّها حفيدتي، لأن فارق السن بيننا كبير جدًا وواضح"، هكذا عبّرت مريم حسن (أم ناهض 57 عامًا)، عدا عن أنها لا تملك إجابات حين رجوع الصغيرة إليها في حلّ واجباتها المدرسيّة، لنسيانها ما تعلّمته منذ أعوام طويلة، لتلجأ إلى أخواتها؛ كونهن يُلبين احتياجاتها أكثر منها في معظم أمورها.
اقرأ/ي أيضًا: حرف الأجداد.. هل تروق للأحفاد؟
وتبيّن لـ "الترا فلسطين" أنّ عملية تقويم الأبناء ومراقبتهم تقلّ تدريجيًا حينما يكبر الوالدان، فالإنهاك والتعب يضطرهم للتغافل عن كثيرٍ من التصرفات والأخطاء، فتقلّ السيطرة عليهم، بالإضافة إلى أنّ الفجوة العمرية تُشعر الأبناء بالإحراج حينما يُقارنون آباءهم مع آباء أصدقائهم، وتتضاءل الثقة بينهما.
لا تُخفي الخمسينية أم ناهض حزنها حينما تُفكر في طفلتها التي تغار وأحيانًا تتصرّف بعنف حين رؤية أبناء أخيها مع والدهم، ولو أنّ الزمن عاد بها لما اختارت ذلك، لكنّ قدر الله نافذ.
أمّا الثمانيني أبو محمد فقد بدت له فكرة إنجاب طفلٍ في عمرٍ متأخر، جيدة، قد تُعينه لاحقًا للاتكاء عليه، فارتبط بزوجة ثانية بعد وفاة زوجته السابقة، وانشغال معظم أبنائه في تكوين حياتهم خارج قطاع غزة، ليأتي وليده "عبدالله" أنيسًا له كما شاء.
لم يُمضِ عبد الله شهوره الأولى، حتى فارق والده الحياة، ولم يستطع الصغير حتى أن يعي ملامح والده. تُرك "عبد الله" ليُعارك الحياة مع أمه التي كانت تعاني مرضًا نفسيًا لم تستطع معه أن تُربي ابنها بطريقة سويّة، لتُلقي به إلى باب أحد أشقائه، وتُعلن استقالتها من هذه المهمة بعد أعوام قليلة.
عبد الله صاحب الأعوام السبعة، والشعر الأشقر والملامح الجميلة يعيش اليوم بينَ حلم أبٍ لم يتحقق، وأُم قذفته إلى يمّ الحياة ليكبر وحيداً، يغرق في حياته التي لا ذنب له بها، سوى أن والده أراده ليتكئ عليه، فأصبح يبحث عن اتكاءٍ يرمم قلبه.
بينما عطية قاعود (55 عامًا) أنجبه والده وهو في عمر الستين، بينما أنجب شقيقاه وهو في عمر السبعين. يُقرّ عطية لـ "الترا فلسطين" أن العمر لم يكن عائقًا قط في قدرة والده على تربيته، بل منحه تجربة كبيرة تساوي أضعاف تجربة الأطفال في جيله آنذاك، لكنّ موقف وداع والده لا يُفارق ذهنه حينما كان صغيرًا، ولم يشبع من حضن والده بعد، ليُقرر أن لا يجعل أبناءه يمرون بذات التجربة من الفقد والبعد، فأنجب أبناءه الأربعة وهو شاب.
الأخصائية الاجتماعية نجوى عوض تقول لـــ"الترا فلسطين" إن الآباء الشباب يملكون استعدادًا لتربية أبناءهم، وهم متشوقين لتطبيق مبادئهم وطموحاتهم، ولكن بعد سن كبير يُصبح كل ذلك تحصيل حاصل، أمرٌ مفروض عليهم، تُفتقد فيه الكثير من المعاني من التآلف والتفاعل والقرب، لأن "طول البال" لم يعد موجودًا، وكذلك الصحة.
اقرأ/ي أيضًا: بعد السبعين.. عجائز في غزة يطلبون الزواج
كبار السن يميلون للراحة والاستقرار والنوم، باعتبارهم قد أدّوا رسالتهم، فلا يستطيعون تحمل طاقة واحتياجات أبنائهم الصغار على كافة النواحي، فيفقدون السيطرة عليهم ويظلمونهم في كثير من الأمور، نظرًا للفجوة الكبيرة بين المراحل العمرية والظروف والاحتياجات لكلٍ منهما، تضيف عوض.
العديد من المشاكل قد تظهر بسبب فارق العمر كما تشير عوض، منها؛ حاجة الأبْ إلى إعالة بدلًا من إعالته لأبنائه، أو حجبه لكثير من الأمور التي يراها ثانوية بالنسبة لأبنائه نظرًا للقفزات الحياتية والتطور المستمرّ، وفرض بعض الطقوس التقليدية على البيت في العديد من الجوانب.
قد يُفكر الآباء في أن أبناءهم الصغار سيُصبحون سندًا لهم، لكن في هذا ظُلم للأبناء الذين سيعيشون في قلق مستمر من فقد آباءهم كونهم كبار السن، وأحيانًا قد يكون الأب موجودًا لكن الفاقد التربوي والنفسي والاجتماعي حاضر.
وكيل مساعد المعلوماتية والتخطيط بوزارة الداخلية في غزت، أسامة قاسم يُبيّن أن عدد الأيتام الذين فقدوا آباءهم بفارق عمري يتجاوز 50 عامًا، بلغ (11318) يتيمًا، لـــ (5400) أب خلال العشرين عامًا الأخيرة، بينما هناك (13000) طفل يتجاوز فرق العمر بينهم وبين آبائهم الأحياء الــ 50 عامًا.
فيما ينفي الأخصائي النفسي درداح الشاعر أي علاقة للفجوة العمريّة بين الآباء والأبناء مع أدوار الأبوة التي تشمل الحب الوالدي الفطري، والقدوة الحسنة، والتربية الواعية والمراقبة، إنما الفجوة تقتصر على زوايا النظر للقضايا فقط.
مقياس العلاقة الأبوية يكمن في اقتراب الأب لنظرة الابن من الأمور، في أن يكون ذكيًا يُعايش تفاصيل حياة ابنه، دون التحجر على الأفكار القديمة وتسفيه الأحلام، وهناك الكثير من الآباء كبار السن قريبون جدًا من أبنائهم، وآباء صغار لا يقومون بدورهم الوالدي السليم، حسب قول الشاعر.
ويتفق الشاعر مع الأخصائية عوض في أنّ أبناء كبار السن معرضون لفقد آبائهم أكثر، وهذا سيترتب عليه فقد للسند والدعم العاطفي للابن، فيواجه حياته بطريقته الشخصية يُصيب ويُخطأ، وأحيانًا قد يقوده الفقدان الأبوي إن لم يتم تعويضه من الأم أو بوجود شخصية مركزية، إلى الشعور بالظلم والرغبة بالانتقام، وأحيانًا إلى الانحراف.
اقرأ/ي أيضًا: