تحولت "محلات العطارة" في قطاع غزة المحاصر، إلى مصادر لما أصبح يُعرف بـ"الطب البديل"، مستخدمةً أعشابًا لا يُعرف أصلها في بعض الأحيان، وأعشابًا سامةً أحيانًا أخرى، وسط إقبالٍ واسعٍ من السكان ذوي الدخل المحدود، الذين يبررون ذلك بـ"عجز الأطباء عن مداواة بعض الأمراض المزمنة، وارتفاع أسعار بعض الأدوية الكيميائية الطبية".
"ألترا فلسطين" حصل على معلوماتٍ عن متضررين من هذه الأعشاب، فحقق في نوعية "العلاج" الذي يقول أصحاب هذه المحلات إنهم يحلون به مشاكل لم يستطع الطب حلها، وبحث عن طبيعة الأعشاب المستخدمة بكثرة، والنتائج التي تسببها هذه الأعشاب، وإن كان عمل هذه المحلات إضافةً لمراكز الطب البديل يتم في إطار القانون.
"دكاكين للعطارة" في غزة تحولت لـ"مراكز للطب البديل" بعيدًا عن القانون، تقدم أعشابًا سامة كعلاج لأمراض مزمنة
العشرينية أسيل طلال، بعد أن شعرت باليأس من وزنها الزائد، توجهت لإحدى محلات العطارة للحصول على وصفةٍ تُخلصها من الدهون بطريقةٍ سريعة، من خلال إعلانٍ مُلصقٍ على الباب يحملُ عبارة: "الحل السحري لإنقاص الوزن في مدة أقصاها 4 شهور".
اقرأ/ي أيضًا: المقاولات في غزة.. تدليس أم شطارة؟
اشترت أسيل مجموعةً من الأعشاب المخلوطة والمعزولة في أكياسِ صغيرة، بسعر "20 شيكل" للكيس الواحد، وأخبرها التاجر أن عليها خلالَ تلكَ الفترة اتباع حميةٍ غذائيّةٍ قاسية، وتناول "الخلطة" مرتيّن يوميًا قبل الأكل، وقد كلفها ذلك خلال شهرين قُرابة ألف شيكل (290 دولار) لإنقاص وزنها.
عندَ سؤالها عن معرفتها مما تتكون منه تلك الأعشاب أجابت، "البائع أخبرني بأنها مجموعةٌ من حبة القزحة السوداء، والمريميّة، والأعشاب العطريّة الأخرى، لكنها ذات مذاقٍ سيء عند تناولها، كشراب منقوع بالماء الساخن"، حسب قولها.
لم تكن أسيل مُتأكدة تمامًا من أسماء الأعشاب المطبوعة على الأكياس ولا تاريخ الصلاحيّة، تقول إنها كانت "أسماءً علميّة" ولا تعرف أيًا منها.
هذه التجربة أفضت إلى آلامٍ شديدةٍ، دفعتها لإجراء تحاليل طبيّة، ليتبين أنها أُصيبت بقرحة معدةٍ شديدةٍ، عللها الأطباء بأنها ناجمةٌ عن سوء تغذيّة، لتكتشف أن الخلطة لم تُسعفها بشيءٍ "وإنما وقعتْ ضحية غُش"، كما تقول.
سوق لا يتأثر بالأزمات
التاجر عبدو زين الدين، الذي يعمل في مهنة العطارة منذ أكثر من 15 عامًا، يقول: "أغلب الحالات تأتي للحصول على وصفاتٍ تتعلق بأمراض مزمنةٍ كالبروستاتا. وتتكوّن الخلطة من أعشابٍ مثل رجل الحمامة، الخِلة، لب بزر القرع، الشمَر، يتم تركيبها بدمج هذه المكونات مع بعضها. هذا إضافة لوصفاتٍ لالتهابات المثانة والقولون العصبي".
ويُقدم العطارون في سوق الزاوية شرق مدينة غزة العديد من الوصفات للأمراض الجلدية أيضًا كالبُهاق، وللضعف الجنسي، والعُقم، وحساسية الصدر، وآلام العظام. هذه الوصفات التي "لايوجد لها حلولٌ عند الأطباء"، على حد قوله.
ويضيف، أن "الوصفات تعتمدُ على الطبيعة ومكوناتِها ولا ضرر بها". مشيرًا إلى أن سوق العطارة لا يتأثر بالظروف والأوضاع الاقتصادية كثيرًا، "لأن الأعشاب ليست تجارةً مكلفة وأسعارها منخفضة".
في ظل عدم وجود رقابةٍ فعاّلةٍ على جودة تلك النباتات الطبيّة، تتواصل فوضى انتشار بيع تلك الخلطات التي تسفر عن نتائج عكسيّةٍ في كثير من الأحيان، وتُكلف مصاريف مادية كبيرة مع استمرار شرائها و"التداوي" بها.
الكبد والكلى أبرز الضحايا
"ألترا فلسطين" قرر إعداد نموذجٍ مُبسطٍ للأعشاب المتداولة في السوق المحلي، التي تحتوي على مواد ضارة، قبل البدء في التأكد من وجودها فعلاً بين يدي المستهلك.
طلبنا من مازن السقا رئيس قسم العقاقير الطبية في كلية الصيدلة بجامعة الأزهر في غزة، أن يخبرنا عن حقيقة بعض الأعشاب، فكانت التالي: "اللوّز المر (الميرمية التي تُغلى لفترة طويلة)، المردقوش (يؤثر على الدورة الشهرية لدى السيدات)، المحلب (تسبب أورامًا حميدة للغدة الدرقية)، بذور الخروع (تسبب المغص أو الإسهال)". وفي حال الإفراط في استخدامها بدون استشارة طبيبٍ مختص، تظهر التأثيرات الجانبية الضارة على الكبد والكلى والجهاز الدموي أو الجهاز القلبي والأوعية والدموية.
بعض الأعشاب المستخدمة في خلطات العطارين تسبب الفشل الكلوي، وتليف الكبد، وتكيس المبايض عند النساء
وبين السقا، أن معظم الخلطات المُقدمة في مراكز التداوي بالأعشاب تحتوي على حمض السيناميك، الذي يستخدم كمادةٍ منكهة، وصبغةٍ صناعية، في بعض الأدوية، وهو أحد أنواع المثبطات الذاتية التي تنتج بواسطة الجراثيم الفطرية.
اقرأ/ي أيضًا: غزة: تعذيب ومحاكمات عسكرية وأحكام إفراج لا تنفذ
أخصائي التغذية رمضان شامية، الذي يشغل مدير دائرة المواصفات والمقاييس بوزارة الاقتصاد في غزة، حذر بشدة من التداوي بالأعشاب من خلال العطارة، مؤكدًا، أن ذلك "يكشف عن مخاطر غير محسوبة يتعرض لها المواطن".
يقول شامية: "هذه الخلطات، تحمل سلبياتٍ كبيرة، معظمها مدمر للكبد والكلى، المسؤول الرئيسي عن إخراج السموم من الجسم، وبعضها يؤخذ من أجل زيادة صحة الكلى أو الكبد، ولكنها تسبب في الحقيقة مرض الفشل الكلوي وتليف الكبد وتكيُس المبايض عند النساء مما يُسبب الإجهاض".
ولفتَ شاميّة إلى أن غياب الرقابة الكافية، على استخدام تلك الأعشاب فى تركيب الوصفات العلاجية، يؤدي إلى إصابة المتعاطين بها بالأمراض بسبب تناولها على غير دراية.
وتفيد دراسةٌ نشرتها هيئة الغذاء والدواء الأمريكية في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2014، أن 31% من النباتات العشبية، تنتج السموم الفطرية الضارة، و19% منها تنتج مركبات الأفلاتوكسين، المرتبطة بسرطان الكبد، و12% منها تنتج مركبات الأوكراتوكسين، التي تسبب الفشل الكلوي.
مراكز وعطارون بدون ترخيص
مركز "ابن النفيس" في غزة، يقدم وصفاتٍ من الأعشاب الطبية لمختلف الأمراض، لكن مصادر خاصةً أفادت بأنه لا يملك ترخيصًا بالعمل من وزارة الاقتصاد، ولا وزارة الصحة، وهو ما أقر به مدير المركز محمود الشيخ علي، وعلله بـ"غياب قانونٍ تشريعيٍ يضبط عملية افتتاح مثل هذه المراكز، ووجود مُشكلةٍ حقيقيّةٍ مع الطب البديل"، على حد قوله.
وأفاد الشيخ علي لـ"ألترا فلسطين"، بأن وصف الأعشاب الطبية من قبل المركز يتم بعد تشخيص حالة المريض من قبل طبيبٍ مختص في وزارة الصحة، "فالمركز يعمل فقط على وصف العلاج العُشبي لأن التشخيص ليسَ من اختصاصه"، وفق قوله.
وتعقيبًا على سؤالنا حول تحذيرات الأبحاث العلمية من بعض الأعشاب وخصائصها، أجاب، "بعض الأعشاب تم التعرف على خواصها منذُ آلاف السنين، وبالتالي يتم علاج بعض الأمراض من خلالِها، بناءً على علم مُكتشف مُسبقاً".
وبحسب بلدية غزة، فإن أعداد محلات العطارة المُرخصة في قطاع غزة، تقارب (60 محلاً)، فيما يزيد عدد جميع المحلات العاملة في هذا المجال عن 110 محلات، وتكتفي البلديات في التعامل مع هذه المحلات بعمليات الإنذار والجباية للمخالفات.
يعمل في غزة 50 محلاً للعطارة دون ترخيص، وأكبر العقوبات التي يواجهها هؤلاء "مخالفة مالية"
ويقول رشاد عيد، رئيس قسم المراقبة ومنح التراخيص في بلدية غزة، إن مفتشي المهن يحررون إخطارًا بضرورة الحصول على ترخيص، وفي حال انقضاء المدة الزمنية دون الحصول عليه، يتم تقديم صاحب المحل لمحكمة البلدية وتغريمه بمخالفة ماليّة.
القانون حبرٌ على ورق
بالعودة إلى قانون الصحة العامة، ضمن أنظمة وقوانين وزارة الصحة الفلسطينيّة، يتبين أن الفصل الخامس (الصحة المهنية/ مادة 31) ينص على، "حظر مزاولة أي عملٍ أو حرفةٍ لها أثرٌ على الصحة العامة أو صحة البيئة، إلا بعد الحصول على موافقة مكتوبة من الوزارة".
فيما تنص (المادة 62) على أنه "يحظر الترخيص لمزاولة أي مهنةٍ صحيةٍ، أو مهنةٍ صحيةٍ مساعدة، إلا بعد توافر الشروط المحددة من الوزارة والنقابة ذات العلاقة". كما تنص (المادة 63) على أنه "يحظر مزاولة أي مهنةٍ صحيةٍ، أو مهنةٍ صحيةٍ مساعدةٍ، إلا بعد الحصول على الترخيص". والشروط لمزاولة هذه المهن تتطلب بالأساس حصول الشخص على شهادةٍ علميةٍ في أحد علوم الصيدلة.
"ألترا فلسطين" توجه إلى وزارة الصحة في غزة، للحصول على توضيحٍ لكيفية تعاطي الوزارة مع مثل هذه المراكز، فكان رد طه الشنطي مدير وحدة الإجازة والتراخيص في الوزارة، بعدم منح رخصٍ بالعمل إلا للمؤسسات الطبية، في حين أن محلات العطارة تصنف بأنها تموينية، ولا علاقة للوزارة بها، رافضًا الإجابة حول ملف "مركز ابن النفيس"، ما يؤكد أن العمل في حالاتٍ كثيرةٍ يجري بعيدًا عن القانون.
ويضيف الشنطي، بأن الوزارة تعطي التراخيص بناءً على تطابق الشروط بأنها مؤسسةٌ صحيةٌ، مضيفًا، "يجب الانتباه إذا كُتبت كلمة علاج على الوصفة فيصبح حينها دواء، بالتالي يُمنَع في السوق، لكن يُسمح بأن يُكتب أنه يساعد كمواد غذائية".
ويعترف الشنطي بأن أعداد الذين تلقوا تعليمًا بمجال الصيدلة أو العلاج قليلٌ جدًا، "وبالتالي يصعب الوثوق بكل الأعشاب التي تُقدم للمواطنين كخلطاتٍ علاجيّة"، حسب قوله.
اقرأ/ي أيضًا:
منشطاتٌ جنسيةٌ قاتلةٌ تباع سرًا في الضفة