12-ديسمبر-2018

صباح الثلاثاء، رفع فادي عامل بلدية البيرة الفأس بقوةٍ وأنزلها في حفرةٍ برصيف شارع بيرزيت القديم، حفر ونبش وجهز الأرض ليزرع شجرة في الشارع الذي نام منهكًا الليلة الماضية، فهنا كانت مواجهاتٌ وقنابلٌ ورصاصٌ في الأمس.

ردُّ بلدية البيرة وعمالها على المدخل الشمالي للمدينة، كان أقوى الردود الفلسطينية الرسمية والأهلية على اقتحام الإسرائيليين للمربع الأمني الذي يعيش فيه الرئيس عباس. وأمام مقهى يافا القريب، وقف فادي وزميلٌ له بكل جديةٍ يناقشان معي أي الأشجار أفضل للشارع، وتحت أقدامنا ترامت كومةٌ من حجارة المتظاهرين، وقنابلُ فارغةٌ ورائحةُ غازٍ علقت في المكان.

إلى أن تفهم "إسرائيل العبقرية"، المعنى، واضح أن على ضباطها تصميم درعٍ لسلواد، ودرعٍ ثالثٍ لقافلةٍ طويلةٍ من "المختفين" في المستقبل

في تلك اللحظات وعلى بعد كيلومترين هوائيًا منّا، كان ضبّاط استخباراتٍ يجتمعون في مستوطنة "بيت إيل" ليناقشوا الهجوم على المستوطنين. الضباط خبراءٌ في "انترنت الأشياء"، ضالعون في البصمات الإلكترونية للصور والأصوات، يفحصون ساعاتٍ طويلةٍ من تسجيلات كاميرات حي المصايف، أين هرب منفذ الهجوم على مستوطني "عوفرا"؟ كم شخصًا كانوا في السيارة؟ هل تركوا السيارة في قرية "أبو فلاح"، كيف عادوا إلى رام الله؟ كل أجهزة الأمن الرقمي التي تفاخر بها نتنياهو تعمل الآن لملاحقة الشاب الذي نفذ الهجوم.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعني الهزيمة في العقيدة الصهيونية؟

أما نحن فمع البلدية نرد أيضًا، فالشباب لم يقصّروا في ضرب الحجارة في الأمس، وآليات البلدية جاءت بعد الحرب القصيرة ونظفت الشارع، وعادت السيارات إلى مساربها، والزجاج المكسور من معرض الموبيليا أُزيح جانبًا وصار مرور الناس آمنًا.

فادي يحفر بقوة، وجاهزٌ لإقناع مدير مشتريات البلدية بأي الاشجار يمكن أن نزرع الشارع. يقول: "هناك أشجار تأكلها الغنمات المارة في الشارع مثل البسكويت، وهناك أشجار ذات تركيب قاس لا يكسرها الأولاد العابثون في الشارع".

في الأثناء، وعلى متن الطائرة الذاهبة إلى موسكو يوجد وفدٌ إسرائيليٌ كبيرٌ سيطلع الروس على مقتضيات درع الشمال مع حزب الله، وفي غزة حرب الحفر متواصلة، وفي رام الله وطولكرم ثمة قتال مختلف، ولكنه يستدعي درعًا من دولة "السوبر سلاح"، و"السوبر رقميات"، و"السوبر زراعة"، و"السوبر رئيس وزراء" يستخدم "البوربوينت" في الأمم المتحدة.

وفي شارع بيرزيت القديم، هناك حياة سوبر أيضًا، فمنذ الصباح ركن الناس سياراتهم وطلبوا الأراجيل في مقهى يافا، والشيخ صاحب البقالة وصل مبكرًا وأنزل من آخر السيارة حلوى رأس عبد وربطات خبز وسبانخ، والأولاد تسربوا من نفس الشارع إلى مدارس الأوائل والنجاح والأميركية، والرد متواصلٌ على الهجوم الإسرائيلي.

مشهدٌ مذهلٌ هو المسافة بين أطراف رام الله وأطراف مستوطنة "بيت إيل"، فعلى جانبي اللعبة يقف لاعبان سياسيان، الأول "سوبر تسليح"، والثاني "سوبر دبلوماسية"، وعليهما معًا ينتصر شكل حياة الفلسطينيين العاديين. فقبل شهرين ونصف عندما غضب الشاب نعالوة من طولكرم؛ نفذ هجومًا في مستوطنة، وقبل نعالوة كان أحمد نصر جرار نفّذ هجومًا في ذات الاتجاه "هجوم واختفاء". ماذا لو كثر المختفون؟ وتطور الأمر من دهس وسكاكين إلى هجماتٍ عن بعدٍ واختفاءٍ وتبخرٍ وهكذا؟

إلى أي عامٍ ستظل إسرائيل تبحث عن نسخٍ سهلة من الفلسطينيين هنا في الضفة أو في غزة؟ علمًا أن الحوادث تشير إلى أن المجموعة الفلسطينية لا يُراهَنُ على انسلاخها عن الفكرة الأولى، عن بلدها المحتل، وأن يوم الفلسطينيين العادي بأشجاره ومقاهيه وأراجيله وأغنامه لا يطمس عنصر "سوبر" في الهوية الوطنية الفلسطينية. لا يعترف هذا العنصر لا "بسوبر السلاح" ولا "بسوبر الدبلوماسية"، وإنما يفهم أنه لا حياة عادية فيها إسرائيل.

وإلى أن تفهم "إسرائيل العبقرية"، المعنى، واضحٌ أن على ضباطها تصميم درعٍ لحزب الله، ودرعٍ آخر لسلواد أيضًا، ودرعٍ ثالثٍ لقافلةٍ طويلةٍ من "المختفين" في المستقبل.


اقرأ/ي أيضًا: 

في الإصرار على اعتدال العدو

في النسيان.. الذاكرة والجسد

المقاومة تُخضع الدولة