ما إن تملأ قطرات العرق جسد حارس المرمى خالد أبو مهادي؛ حتى يركض نحو البحر ليبرّد جسده، لكن كتفيه ووجه سرعان ما يمتلئان بعوالق بنية وسوداء ذات رائحة كريهة من مياه البحر، ثم يعود مجددًا إلى حراسة مرمى فريقه خلال مباراة كرة القدم الشاطئية على شاطئ جنوب غزة.
فريق أبو مهادي (27 عامًا) لم يكن يبعد سوى 150 مترًا عن واحدة من 8 مضخات مياه للصرف الصحي غير المعالجة، التي تدفع بنحو 100 ألف متر مكعب في بحر قطاع غزة يوميًا، حسب تقرير سلطة جودة البيئة، بعد قرار الاحتلال الإسرائيليّ تقليص الكهرباء الموردة لغزة إلى النصف تقريبًا، أي من 125 ميغا واط إلى 65 فقط منذ منتصف شهر نيسان/إبريل الماضي.
سكان قطاع غزة يهربون من الحر وانقطاع الكهرباء إلى البحر، غير آبهين بالتلوث الكبير في مياهه بسبب ضخ المجاري إليه
لكن خالد وأصدقاؤه لا يكترثون لهذه العوالق القذرة على أجسادهم. "آباؤنا ونحن نعيش هنا منذ 50 سنة، فإذا لم نسبح في البحر فلا شيء آخر نمارسه في هذا الصيف، وإلا فلسعات البعوض ستنتظرنا عند حلول الظلام" يقول خالد.
اقرأ/ي أيضًا: زواج فلسطينيات وإنجابهن.. الماء وسيطًا
حارس المرمى ذاك وجيرانه يسكنون على بعد أمتار فقط من محطة غزة الرئيسية لتكرير مياه الصرف الصحي جنوب المدينة، لكن مولدات المحطة لم تعمل منذ تفاقم أزمة الكهرباء؛ وهي لا تكفي لمعالجة تلك المياه، وبالتالي يُكره القائمون على المحطة على ضخها إلى البحر.
ويمكن لآلاف المصطافين على شاطئ منطقة الشيخ عجلين الرئيس رؤية بقع رمادية مختلطة بالطحالب عند نهايات مدّ الموج، عدا عن عشرات من القناديل وسرطانات البحر النافقة على ذلك الشاطئ الممتد بطول 42 كيلومترًا. لكن تلك المياه الآسنة لا تعرف الحدود السياسية؛ فقد وصلت مؤخرًا إلى الشواطئ الجنوبية في الداخل الفلسطيني المُحتل، حيث أعلنت السلطات الإسرائيلية إغلاق شواطئ بلدتي عسقلان وزيكيم اللتين تبعدان 15 كيلومترًا شمال غزة.
ولا يبدو أن الأزمة ستُحل قريبًا؛ فبلديات القطاع تحتاج لنحو 400 ألف لتر على الأقل من الوقود شهريًا، لتشغيل مضخات معالجة المياه في حال انقطاع التيار الكهربائي، وذلك يعني أن آلافًا من المترات المكعبة من المياه "المُخضّرة" لن تجد طريقها سوى إلى البحر.
تحتاج بلديات قطاع غزة إلى 400 ألف لتر على الأقل من الوقود شهريًا لتشغيل مضخات معالجة المياه في حال انقطاع الكهرباء
"ما إن يبدأ الجزْر ليلاً حتى ترى الكثير من فضلات المجاري المختلطة بالطحالب على أطراف الشاطئ" يقول خالد. وعندما أخبرناه أن الإسرائيليين على الشواطئ الجنوبية تضرروا من هذه المجاري، قال: "هذا شيء رائع، على السباحين الإسرائيليين أن يستمتعوا بهذا القرف مثلنا، فنحن نشاركهم ذات الرمال وذات البحر".
عُدنا مُجددًا إلى شاطئ وسط المدينة، حيث كان آلاف الهاربين من الحرّ وطول ساعات انقطاع الكهرباء التي تصل إلى 22 ساعة يوميًا إلى السباحة في البحر. التقينا نور عكيلة (52 عامًا) التي جاءت مع أحفادها إلى الشاطئ.
قالت نور: "أنا أعرف أن السلطات في غزة توجّه تحذيرات كل صيف من السباحة في البحر، لكنني سأدخل في معركة مع هؤلاء الأطفال إذا رفضت اصطحابهم إلى البحر، فلا شيء يمارسونه سوى السباحة هنا. هل يوجد سينما أو مول تجاري؟ أرجوك أخبرني لأصحبهم هناك".
أما صديقتها كريمة رجب (60 عامًا) فقالت "ليس لدينا المياه الكافية لنعبئ حوض الحمام المنزلي (البانيو) بالمياه، وإذا كان ذلك، فهي ذات رائحة كريهة مثل البحر".
"لدينا مثل قديم يقول: اللي بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة، وعلى الإسرائيليين أن يستمتعوا بذلك البراز. يبدو أنه سلاح أكثر قذارةً من الصواريخ" أضافت كريمة.
وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أغلقت في السادس من تموز/يوليو 2017 شاطئي بلدتي "زيكيم" و"إشكلون" أمام المصطافين حتى إشعار آخر، بسبب تلوثها حسب التوقعات، بمياه الصرف الصحي التي يتم ضخها من غزة عبر البحر.
وأشار موقع وزارة الصحة الإسرائيلية إلى أن التلوث تجاوز شاطئي "زيكيم" و"إشكلون"، ووصل مستوطنة "ناتيف هعسراه" شمال غرب القطاع، إضافة إلى تلوث مياه الآبار الجوفية.
وطالب رئيس بلدية "إشكلون"، رئيس حكومة الاحتلال، بإيجاد حل عاجل لأزمة الكهرباء في غزة، أو حلول توقف استمرار تسرب مياه الصرف الصحي.
ونشر مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة في 18 حزيران/يونيو الماضي تقريرًا قال فيه، إن نتائج الفحص المخبري الذي أجرته سلطة جودة البيئة ووزارة الصحة، بيّنت أنّ مياه البحر مُلوّثة ولا تصلح للاستجمام، عبر إثبات 97 عينة من أصل 160 جُمعت من شواطئ مختلفة في القطاع، أي ما نسبته 60% من الشواطئ تعد ملوثة.
وحول مخاطر هذا التلوث على حياة الإنسان، لفت التقرير إلى أنّ السباحة في مياه البحر الملوّثة تُسبّب الإصابة بالطفيليات المعوّية وأمراضًا جلدية كالطفح، عدا عن الإسهال خاصة لدى الأطفال.
بلدية غزة تؤكد عجزها عن منع الأعدد الهائلة من السباحة في البحر، وتؤكد أن جهود الدول الممولة لمشروع معالجة تكرير المياه تذهب سدى
يؤكد ماهر سالم مدير عام المياه والصرف الصحي في بلدية غزة، أن بلديته تعجز عن منع هذه الأعداد الهائلة من السباحة في البحر، "وطالما أنه لا يوجد كهرباء كافية، فلا خيار أمامنا إلا ضخ هذه المجاري في البحر".
ويقول ماهر: "جهود الدول المُمولة لمشروع معالجة تكرير المياه تذهب سُدىً، فما فائدة هذه المحطات طالما لا يوجد وقود لتشغيلها؟".
"على الإسرائيليين أن يفكروا بحكمة ولو لمرة واحدة، فهذه المياه ليست صواريخًا يمكن اعتراضها بالقبة الحديدية" يقول خالد وهو يطرق بإصبعه على جبينه المُتعرّق ثلاثًا.
اقرأ/ي أيضًا:
سردين غزة غذاء لفقرائها.. ماذا عن الصيد الجائر؟