بينما انشغلنا نحن الفلسطينيين في ابتداع تعابير تؤكد رفضنا لـ"صفقة القرن"، وتوجيه الاتهامات لبعضنا بالمشاركة في تمريرها، انشغلت الإدارة الأمريكية في بث تسريباتٍ عن الخطة وموعد نشرها ثم نفي ذلك وإعلان التأجيل، في حين انشغلت إسرائيل في تحقيق إنجازاتٍ على الأرض جعلت محتوى "صفقة القرن" أقل من طموحها، بل أقلَّ مما تُحققه هي بنفسها على الأرض.
انشغلنا في ابتداع تعابير رافضة لـ"صفقة القرن"، وانشغلت إسرائيل في تحقيق إنجازات على الأرض جعلت الصفقة أقل من طموحها
بدأ الحديث عن خطة ترامب مع وصول الرجل لرأس الإدارة الأمريكية، ثم تعزز ذلك مع مرور الوقت، وقد بقيت هذه الخطة أول الأمر سرية ولا موعد واضحًا لنشرها أو تفاصيل حقيقية عن محتواها، في حين كان ترامب ذاته يذهب إلى خطواتٍ تحضيرية لفرض أمرٍ واقعٍ تقوم الخطة على تعزيزه والبناء عليه، بدءًا من إعلان الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، وبالتالي إعلان إخراج القدس من أي مفاوضات، ما يُحقق إرادة إسرائيلية قامت مع قيام هذا الكيان قبل سبعة عقود.
اقرأ/ي أيضًا: خطة الصهر اليهودي
عزّز ترامب هذه الخطوة بإعلان الاعتراف بالجولان، تبع ذلك تمرير معلوماتٍ من هنا وهناك بأن ترامب مستعدٌ بل وموافقٌ أيضًا على ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل، ما يعني تحويل أي دولةٍ فلسطينيةٍ يُفترض إقامتها لاحقًا إلى مجموعةٍ من الشوارع غير المتصلة ببعضها البعض.
تزامنًا مع كل ذلك، كانت إسرائيل تُعزز علاقتها مع دولٍ عربيةٍ وتخرج بعضها إلى العلن، كما فعلت في الزيارتين الرسميتين إلى سلطنة عمان، أولاً من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة، ثم من وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس، إضافة لتطبيعٍ رياضيٍ متلاحق ومُعلن مع قطر والإمارات، وصل حدَّ زيارة وزيرة الرياضة والثقافة ميري ريغف إلى أبوظبي وتجولها في مسجد الشيخ زايد برفقة مسؤولين إماراتيين، وعزف السلام الإسرائيلي في الدوحة وأبوظبي أيضًا، هذا عدا عن تعاونٍ غير مسبوق في الشق الأمني من خلال شراء السعودية والإمارات لتقنيات تجسس إسرائيلية، قبل أن تُنشر مؤخرًا تصريحاتٌ لـ"دبلوماسي سعودي" قال فيها إن زيارة رسمية سعودية إلى إسرائيل هي "مسألة وقت".
هذا التطبيع المُعلن على أعلى المستويات تضمّنته مبادرة السلام العربية، لكنها اشترطت أن لا يحدث ذلك إلا بعد إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ على قاعدة "حل الدولتين"، وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. أما الآن، فقد نجحت إسرائيل وبمساعدة أمريكيةٍ في تجاوز هذا الشرط، وفتح أبواب التطبيع مع دولٍ كانت تقف بحزمٍ ضد مجرد حمل عملة الشيكل الإسرائيلية مع الفلسطيني القادم من الضفة الغربية إليها.
تُضاف إلى ذلك، الزيارات التي تقوم بها وفودٌ إسرائيليةٌ إلى تونس، ونشاطاتٌ أخرى في المغرب، وتعزيز العلاقات مع مصر في كل المجالات الأمنية وااسياسية والاقتصادية ومنها السياحة. هذا كله يسحب من يد السلطة ورقة الضغط الوحيدة التي كانت تحملها، وهي أن التطبيع مع العرب يمر من خلال تحقيق الحق الفلسطيني وإقامة الدولة.
يكفي إسرائيل خروجها من مؤتمر البحرين بصورة الصحافي الإسرائيلي أمام الجمعية البحرينية لمناهضة التطبيع
لا تنتظر إسرائيل بعد كل ذلك "صفقة القرن"، ولا تهمها مخرجات الورشة الاقتصادية في البحرين، ومشاركتها فيه ليست إلا محاولة للزعم أنها منفتحة على السلام خلافًا للفلسطينيين، ومحاولةٌ لمد مزيدٍ من الجسور مع الدول العربية المشاركة، وستنجح في ذلك.
لا يُقلل هذا من أهمية الإجماع الفلسطيني على رفض "صفقة القرن" ومقاطعة "مؤتمر البحرين"، لكنه يفضح حقيقة أننا فشلنا في مواجهة هذه الصفقة عندما انشغلنا بتوجيه الاتهامات لبعضنا بتمرير هذه الصفقة، بينما كانت إسرائيل تُنفذ على الأرض خطواتٍ أهم مما ستمنحها إياه هذه الخطة.
غالبًا، ستسقط "صفقة القرن"، وستفشل إدارة ترامب ومن تبعها من العرب في فرض بنودها علينا، لكن إسرائيل نجحت في تمرير ما هو أخطر منها على الأرض، وهي آخذة بتمرير ما هو أشد خطورة. قد نخرج لاحقًا للاحتفال بإفشال المشروع الأمريكي التصفوي لقضيتنا، لكن على مقربةٍ من هذه الاحتفالات ستذهب مئات آلاف الدونمات من الضفة لتكون جزءًا لا يتجزأ من "دولة إسرائيل"، وستعترف الولايات المتحدة بذلك.
باختصار، نجحنا في خلق إجماعٍ وطنيٍ ضد "صفقة القرن"، وفي إحباط محاولة بعض العرب فرض أي تسويةٍ علينا، لكننا لازلنا نفشل في حماية أرضنا من المشروع الصهيوني الأشدّ خطورة من "صفقة القرن"، كما نفشل في الإبقاء على قضيتنا مركزية لدى قسمٍ كبيرٍ من العرب الذين يغوصون بالكامل في رمال التطبيع المتحركة.
اقرأ/ي أيضًا: