26-يوليو-2017

"كان استعماريًا حاقدًا، أراد أن يذل شباب القدس ويرهبهم". هكذا وصف الأديب خليل السكاكيني، الضابط البريطاني من أصل يهودي آلن سيكرست، هذا الذي كان له موعد مع الموت برصاص الثوار الفلسطينيين في باب الأسباط، إبان الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.

لا يُذكر باب الأسباط إلا وحكايات عن العزة والإباء تتبعه، وهذا ما يؤكد عليه المعتصمون منذ منتصف شهر تموز/يوليو الجاري في الحي، ويعجز الاحتلال عن كسره. لأجل ذلك نورد لكم هذه الحكاية من ذاكرة باب الأسباط.

لا يُذكر باب الأسباط إلا وحكايات عن العزة والإباء تتبعه، وهذا ما يؤكد عليه المعتصمون فيه ويعجز الاحتلال عن كسره

إنه سيكرست، ضابط يهودي الأصل في الجيش البريطاني، وصل القدس إبان الثورة الكبرى مفتّشًا لـ"البوليس"، وحاول جاهدًا منذ اللحظة الأولى قمع الثورة في المدينة، والتضييق على أهلها. يقول أهل المدينة، إن مدينتهم عرفت في عهده أبشع سياسة، وقد كان اسمه مرتبطًا بالوحشية والتعطش للقتل.

اقرأ/ي أيضًا: أسود باب الأسباط.. حكاية من أسوار القدس

كان سيكرست يتجول يوميًا بسيارته "الموريس" الصغيرة، وتتبعه سيارة حراسة، وكلما رأى شابًا أو أكثر يسيرون في الشارع، توقف وانهال عليهم ضربًا بعصاه ويديه وقدميه، محتميًا بحرّاسه. يقول السكاكيني: "إذا مر من الطريق لم يسلم أحدٌ من أذاه، وإذا دخل بيتًا ليفتش عن سلاحٍ ضرَب النساء والأطفال وأتلَف الأثاث، ومزّق وكسّر وكبّ، والأمة تشكوه إلى المندوب السامي على غير جدوى".

ذاع صيت الضابط بين أعيان القدس وعامتها، وتوالت كتب الشكاوى إلى المندوب السامي دون جدوى، حتى أنه كان بعد كل اعتداء يسأل وجهاء القدس ساخرًا: "مين طلع راس؟ مين انتصر؟ أنا أم أنتم؟".

اختار شابان من القدس تصفية الحساب مع سيكرست، إنهما سامي الأنصاري وبهجت أبو غربية. يروي أبو غربية في مذكراته، أنهما راقبا سيكرست لتحديد كيفية تنفيذ العملية، فتبين لهما أنه يتوجه في كل يوم جمعة بسيارته التي يقودها بنفسها للتفتيش على مخفر باب الأسباط، ومعه حارس واحد فقط يجلس إلى جانبه، دون أن ترافقه سيارة الحراسة كما يفعل دائمًا.

قرر الأنصاري وأبو غربية تنفيذ العملية بعد انتهاء التفتيش، إذ تكون سيارته في طريق العودة في وضعية صعود صعب، فتكون بطيئة.

وفي صباح يوم الجمعة 12 حزيران/يونيو 1936، أي بعد شهرين من بدء الثورة، توجه الأنصاري وأبو غربية إلى مقبرة باب الأسباط، وكمنا له. عند الساعة الحادية عشرة تقدمت السيارة مُتجهة إلى المخفر، ترجل الصديقان نحو طريق أريحا، حيث الطريق المعروف باسم "طلوع ستنا مريم" باتجاه باب الأسباط.

في "طلوع ستنا مريم" باتجاه باب الأسباط، كمن بهجت أبو غربية وسامي الأنصاري لمفتش الشرطة البريطانية، فأصابوه وحارسه، وانسحب أحدهما فيما استشهد الآخر

سار الصديقان كأنما يسيران في نزهة، أمسك الأنصاري بمسدسه الجاهز للإطلاق؛ وقد دسه مع يده في جيبه، بينما أمسك أبو غربية بمسدسه وقد غطاه مع يده في طربوش، حتى إذا التقيا في وسط "طلوع ستنا مريم"، وكانت السيارة تسير ببطىء، فتح الصديقان نيرانهما على سيكرست، فأصيب وألقى برأسه وجسمه إلى الخلف رافعًا يديه عن المقود، فتوقفت السيارة، ثم راحت تنحدر إلى الخلف لشدة انحدار الطريق.

كان هدف الأنصاري وأبو غربية الضابط سيكرست تحديدًا، فانشغلا به عن حارسه إدموند دوكسات، الذي عاجلهما بإطلاق النار من مسدس كان في يده، ويبدو أنه كان قد اشتبه بحركتهما وسط الطريق، فهيأ مسدسه لإطلاق النار قبل أن يصلهما.

واصل أبو غربية إطلاق النار حتى أصاب الحارس، فيما انسحب الأنصاري بعد أن أُصيب برصاصة اخترقت صدره من اليمين إلى اليسار، فمزقت رئتيه، والتجأ الأنصاري لمنزل أحد المارة، إلا أن قوة عسكرية داهمت المنزل واعتقلته حيًا، ومن هناك نُقل إلى سجن مستشفى الحكومة في المسكوبية، دون إسعاف.

أُخضغ الأنصاري للتحقيق في المستشفى، كان المطلوب منه أن يجيب على سؤال واحد: "من الذي شاركك في تنفيذ العملية؟" غير أنه كان يردد بالعربية والإنجليزية أنه كان بمفرده، قبل أن يُفارق الحياة بعد ثلاث ساعات من إصابته.

يقول السكاكيني: "ومما يُؤسف له الأسف الشديد، أن الجند الإنكليز الذين حملوه في السيارة إلى المستشفى، لم يتورعوا عن ضربه بأعقاب البنادق وهو جريح، فكان يرفس هذا برجله، ويلكم ذاك بيده".

اختلط الفرح بالحزن في القدس، فسيكرست الضابط المتغطرس تلقى درسًا قاسيًا، وحصل على إجابة فلسطينية واضحة لأسئلته التقليدية، إلا أن الفدائي الذي كسر هيبته ارتقى شهيدًا أيضًا.

في مساء اليوم ذاته شيّعت القدس شهيدها، ورغم أن الاحتلال البريطاني أعلن حظر التجوال في القدس العتيقة، إلا أن جموعًا غفيرة احتشدت في المسجد الأقصى، ضمت شخصيات وطنية كبيرة، وقد تمت مواراة جثمانه في مقبرة الرحمة عند باب الأسباط.

كتب السكاكيني في يومياته: "بَطلٌ آخر سقط بالأمس في ميدان الشرف، بل هو أعظم بطل عرفته فلسطين، هو سامي الأنصاري ابن الشيخ إبراهيم الأنصاري، خال موسى العلمي، لا يجاوز عمره التاسعة عشرة من عمره، وقد كان أستاذًا في المدرسة الرشيدية للّغة الإنكليزية، فقد كان ممتازًا فيها، وهو من خريجي الكلية العربية للسنة الماضية".

وأسهب السكاكيني في وصف الشهيد قائلاً: "هو حديث العهد بالتعليم بل بالحياة، فتى عالي الجسم مفتول العضل، ممشوق القوام، ثقفٌ لقف، جميل الصورة، مولع بالاستحمام بالماء البارد، والألعاب الرياضية، أنيق الثياب من رآه حسبه أقرب إلى الطفولة منه إلى الشباب، بل أحسبه أشبه بالبنات منه بالرجال... هذا هو البطل الذي سقط بالأمس، وإنه لبطل عظيم، بل أعظم بطل عرفته فلسطين".

ألزمت سلطات الاحتلال البريطاني سيكرست على مغادرة فلسطين كاملة، حاملًا معه إصابات عميقة في جميع أنحاء جسده، قبل أن يفارق الحياة في عام 1983 حيث كان يقيم في لندن.


 اقرأ/ي أيضًا: 

باب العامود.. من هنا يأتيكم الوجع

ربيع القدس.. خريف تل أبيب

هدده المحققون بزوجته وقطعوا خلفه.. ولم يرضخ