10-ديسمبر-2017

ليس رفض الأردنيين لاعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل بالأمر الغريب، فنزولهم إلى الشوارع واعتصامهم سواء أمام السفارة الأمريكية في عمّان، أو مسيراتهم في وسط البلد تحت رايات حزبية شتى وبأعداد مهولة، موقف أصيل لا لبس فيه، لكن المثير للدهشة هو تصريحات رسمية تقول بتوحد الموقف الشعبي والرسمي أردنياً "على حد تعبير النائب الأول لرئيس مجلس النواب الأردني خميس عطية"، وهنا يبدو الوقوف عند ماهيات هذا "الموقف الموحّد" أمراً مُلِحّاً.

فهتافات الأردنيين في مسيراتهم واضحة: مِن "تسقط وادي عربة" إلى "غاز العدو احتلال"، حتى هتافهم: "العربي عنده طيارة .. طيارة أمريكية ما بتقصف صهيونية"، والموقف الرسمي أصبح جلياً أيضاً؛ منذ توقيع  اتفاقية السلام "وادي عربة"، مروراً بتاريخ طويل من العلاقات مع دولة الاحتلال، وصولاً إلى توقيع اتفاقية الغاز بين شركة الكهرباء الأردنية وشركة نوبل إنرجي الأمريكية بهدف استيراد الأردن الغاز من إسرائيل، الاتفاقية التي لاقت رفضاً شعبياً وحتى نيابياً كبيراً، والجدير بالذكر أن الرفض لم يكن رفضاً أخلاقياً فقط بل حتى بمنطق براغماتي بسيط، فإن للاتفاقية وقع الكارثة على أمن الأردن الاستراتيجي والاقتصادي.

هتافات الأردنيين في مسيراتهم واضحة: "العربي عنده طيارة .. طيارة أمريكية ما بتقصف صهيونية"، والموقف الرسمي أصبح جلياً أيضاً؛ منذ توقيع  اتفاقية السلام "وادي عربة"

وحتى وسط هذه الحُمى الجماهيرية والخطابية في ظل قرار ترامب، يُعَدّ التباين الخطابي الرسمي والشعبي واضحاً، فشتان بين الشعارات المذكورة على لسان الشعب الأردني وموقفه الصارم الرافض لقرار ترامب كجزءٍ من موقف صارم رافض لأي اتفاقيات مع الكيان الصهيوني؛ سواء كان هذا الرفض رفضاً أخلاقياً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال منذ 70 عاماً، أو رفضاً براغماتياً يرى في هذه الاتفاقيات تهديداً فجّاً للمصالح الأردنية العليا، أو رفضاً كلياً لا يتجزأ فيه الأخلاقي عن المصلحي؛ يرى في الصهيونية مشروعاً يهدد المنطقة برمتها ولا تنفصل فيه حادثة عن أخرى، شتان بين هذا الموقف "الشعبي" وبين الموقف الرسمي الناعم الذي يرى أن السفارة الأمريكية ستكون "يتيمة" في القدس وبعيدة عن سفارات العالم "ومن ضمنها السفارة الأردنية" المتواجدة في تل أبيب.

اقرأ/ي أيضاً: بهذه البساطة: إنها أرضنا

الأهم من هذا التباين الشعاراتي هو مضمون هذه الشعارات، فالشارع الذي يهتف ضد "الطيارة الأمريكية" يعلم مُسبقاً أن السلام مع كيان استعماري استيطاني توسعي يهدد أمن المنطقة منذ سنوات، ليس سوى مزحة ثقيلة، ولا يتم إلا بالتنازل عن سيادة الدول العربية أمام الاستعمار، وبناءً على عِلمه المُسبق بسوء نوايا رُعاة السلام الأمريكيين، لم يكن إعلان ترامب إلا كما قال هو بنفسه "اعترافاً بالواقع"، وهذا الواقع تم الاعتراف به عربياً مع كل معاهدة سلام أُبرِمت، أما رسمياً فالتشبث بـ"السلام" قائم وليست "الصدمة" الرسمية بأميريكا والمفاجأة بعدم كفاءتها لرعاية عملية السلام سوى فصلاً آخر من فصول الملهاة.

الهزيمة الرسمية والهزيمة الشعبية

هُزِم الشارع الأردني كما هُزم الشارع العربي كثيراً أمام المواقف الرسمية التي "تُداري" إسرائيل منذ أول اتفاقية سلام عربية – إسرائيلية وحتى اليوم، فلم يُلاقي اتحاد القوى والأحزاب صفاً واحداً رفضاً للتخاذل الرسمي والتنازلات المجانية التي تُقدم لإسرائيل "من وادي عربة وحتى اتفاقية الغاز" آذاناً رسمية صاغية، بل تبنت المؤسسات الرسمية خطاب التعايش والسلام كما لم تفعل من قبل، وأصبح السلام والتعايش السلمي أنشودة تُتّلى يومياً على مسامع الأردنيين، ولم يكن إعلان ترامب إحدى هذه الهزائم، كان هزيمة فعلاً لكنها هزيمة "لعملية السلام" المزعومة التي يتبناها "الموقف الرسمي" ويحاول إقناع الشارع فيها منذ أعوام.

هُزِم الشارع الأردني كما هُزم الشارع العربي كثيراً أمام المواقف الرسمية التي "تُداري" إسرائيل منذ أول اتفاقية سلام عربية – إسرائيلية وحتى اليوم

لكن الفصل الأخير من "ملهاة السلام" أصبح مأساوياً، فالشارع سيقف مُجبراً في ذات الخندق وذات الهزيمة في وحدة المصير مع دُعاة السلام مع العدو، وما عليه اليوم سوى أن يعي كما وعى دائماً أولوياته؛ فوجود السفارة الأمريكية في تل أبيب أو في القدس لا يُعمينا عن وجود سفارة أخرى للأردن في أرض العدو، ولا يُعمينا عن اتفاقية الغاز التي سيدفع الأردنيون قيمتها من جيوبهم للعدو الذي هدد أمنهم ولا يزال على مدار سنوات من الصراع.  

وأخيراً فإن الطالب الذي يدرس في الجامعة الأردنية علوماً سياسية، ويرى في كتابه ياسر عرفات مجاوراً لأسامة بن لادن كزعماء لمنظمات إرهابية، الطالب الذي أصبح حديثه عن استعادة كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر شعاراً بائساً لا موضوعياً في نظر أستاذه الجامعي، لا بُدّ أنه سيصاب بالصدمة إذا رأى هذا الأستاذ ذاته يستنكر اعتراف ترامب ويبحث عن راعٍ آخر لعملية السلام العقيمة، وسيصاب بالفصام حين يسمع أن الموقف الرسمي والموقف الشعبي الأردني موحدان!


اقرأ/ي أيضاً: 

عن الدعوة البائسة للغضب: أن تكون عبداً للقانون

الحب الإلكتروني: هائل الانتشار.. سريع الغضب

متناقضة عيد الاستقلال