لم يتوقّف ما فعله مستوطنون يوم الخميس (الأول من شباط/ فبراير)، عند حدود إجراء توسعة داخل بؤرة استيطانية أقيمت العام الماضي، كانت تحتوي مجموعة بيوت متنقلة، بل كانت رسالة هؤلاء في إضافة الأبنية الخرسانية والأساسات الثابتة أنّ هذه البؤرة في مصيرها إلى الثبات، والتحوّل إلى مستوطنة كبيرة.
بالعادة، تتنصل حكومة الاحتلال من البؤر الاستيطانية العشوائية، وتطلق عليها في خطاباتها وإجراءاتها الرسمية وصف البؤر غير الشرعية، لكن وصف اللاشرعية سرعان ما يسقط
هكذا تبدأ العملية في الغالب، مستوطنون يستولون على قطعة أرض تُقدّر مساحتها بعشرات الدونمات، يمنعون وصول الفلسطينيين إليها بالتهديد وقوة السلاح، وبحماية الجيش في أغلب الأحيان، يضعون فيها مجموعة "كرفانات" وبيوت متنقلة، أو -بحسب الطريقة الجديدة المتصاعدة- يضعون فيها مجموعة من المواشي، ثم سرعان ما تتحول هذه البؤرة إلى أمر واقع.
مستوطنون يشرعون بترميم موقع أثري تمهيدًا لإقامة #بؤرة_استيطانية جديدة على أراضي قرية برقة شرق #رام_الله. pic.twitter.com/hBJbJTTSo2
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) February 1, 2024
بالعادة، تتنصل حكومة الاحتلال من هذه البؤر، وتطلق عليها في خطاباتها وإجراءاتها الرسمية وصف البؤر غير الشرعية، لكن وصف اللاشرعية سرعان ما يسقط عند إقرار أول مخطط هيكلي لهذه البؤرة، لتتحول البؤرة إلى مستوطنة كاملة، تمدُّها الحكومة و"الإدارة المدنية" بشبكة الخدمات: مياه، كهرباء، طرق، وبالتأكيد أبراج الحماية.
الفكرة كلها تقوم حول فكرة الأمر الواقع، لقد صمم الاحتلال منظومة إجراءاته وفق فكرة فرض الأمر الواقع، تبدأ القصة دائمًا بالمفاجأة، سواء بمصادرة أرض هنا، أو هدم مبانٍ هناك، أو إقامة مستوطنة في مكان آخر، سرعان ما تتحول الفكرة الطارئة الشاذة والغريبة، إلى أمر واقع، ثم يعاد تصميم الواقع المحيط به ليتناسب مع الواقع الجديد.
هكذا بدأت فكرة الحواجز وإغلاق المدن والقرى، اليوم لا يكاد الفلسطيني يصدّق أنه قاد سيارته ربع ساعة دون الوقوف على حاجز على مدخل قرية، أو أجبر على العودة على مدخل مدينة أخرى. صارت فكرة الحواجز والإغلاق هي الحالة الطبيعية، هكذا إذًا يعول صناع القرار في دولة الاحتلال على فرض الوقائع والإجراءات على ذهن من يحتلونهم، ويستعمرون مخيالهم قبل كل شيء.
المفارقة أن توسعة البؤر الاستيطانية هذه الأيام، تتزامن مع الكلام المتسارع من دول العالم، وتحديدًا الغربية عن إدانة سلوك وعنف وإرهاب المستوطنين في الضفة الغربية، وفرض عقوبات على بعض أبرز أسمائهم
البؤرة الجديدة، ستشكل مع عملية توسعتها المتسارعة هذه الأيام طوقًا يحيط بقرية برقا شرق رام الله من جهة القرية الغربية، لأنها تأتي كحزام إغلاق في ذات المسار الذي أقيمت عليه بؤرتي "جفعات آساف" وبؤرة "عوز تصيون" التي استهدفت البلدة من جهتها الغربية، وتغلق مساحات شاسعة من أراضي شرقي رام الله، وتمنع وصول المواطنين إلى مساحات شاسعة أخرى من جهاتها الأربع.
ولعل المفارقة اللافتة لهذه التوسعة اليوم، تأتي في ظل الكلام المتسارع من دول العالم، وتحديدًا الدول الغربية عن إدانة سلوك وعنف وإرهاب المستوطنين في الضفة الغربية، وفرض عقوبات على بعض أبرز أسمائهم، وهو العنف الذي لا يتوقّف عند حدود الاعتداء على الأشخاص وتحطيم الممتلكات، بل يتعداها إلى الأخذ بزمام المبادرة لمصادرة الأرض وإقامة البؤر وفرض الوقائع الجديدة على الأرض، كما يحدث كل يوم في تحدٍ سافر للموقف الدولي المتصاعد، وهو بالتأكيد التحدي الذي يحميه قادة، وزراء وأعضاء كنيست، قدموا أصلا إلى الحكم من أجل إكمال مهمة الاستيطان، وحسم الصراع على الأرض كما يروج له الآن. لكن اللافت أيضًا في أمر هذه البؤرة تحديدًا، أن عملية توسعتها جرت في ذات المكان الذي استشهد فيه الشاب قصي معطان يوم الرابع من آب / أغسطس من العام المنصرم، وهو العام الذي سجل فيه أكبر عدد من الشهداء الفلسطينيين على يد مستوطنين.
وصل عدد البؤر في الضفة الغربية والقدس إلى أكثر من 193 بؤرة، منها 94 تأخذ شكلًا زراعيًا ورعويًا، إلى جانب 180 مستوطنة معترف بها من قبل حكومة الاحتلال
اليوم، وصل عدد البؤر في أراضي الضفة الغربية والقدس إلى أكثر من 193 بؤرة مسجلة ومحددة وفق معطياتها المكانية، منها 94 بؤرة تأخذ شكلًا زراعيًا ورعويا، إلى جانب 180 مستوطنة معترف بها من قبل حكومة الاحتلال، ويتم تغذيتها وتمويلها باستمرار بالتسهيلات والتخصيصات المالية.
هذه البؤر التي تمنع وصول المواطنين إلى أكثر من 410 آلاف دونم من الأراضي، لا يتوقف دورها عند حدود الإسكان أو حل مشكلة الأخطار الديمغرافية المتخيّلة التي يجري الترويج لها من مؤسسات المستوطنين، على رأسها مجالس المستوطنات ومنظمات المجتمع المدني الاستيطاني التي تنشط بكثافة وكثرة هذه الأيام، لكنها وبالإضافة إلى كونها تشكل مدخلًا أمنيًا للمراقبة وإحكام السيطرة وتضييق الخناق على القرى والتجمعات البدوية، إلا أن حلم ساكنيها لا يبرح مساحة تحويل كل بؤرة من هذه البؤر إلى مستوطنة قائمة بحدِّ ذاتها، أو في أسوأ أحوالها إلى حي استيطاني يتبع مستوطنة قائمة، من أجل ترسيخ فكرة الوجود ومحاصرة الفلسطينيين ومنع فرص نموهم السكاني والجغرافي على أرضهم.