مقال رأي |
حتى الآن لا جديد بخصوص تمويل الاتحاد الأروربي للسلطة الفلسطينية. 214 مليون يورو تنتظرها السلطة وتقول إن جزءًا كبيرًا منها سيذهب لبرامج الشؤون الاجتماعية المتوقفة منذ سنة تقريبًا بسبب توقف التمويل. تاريخيًا، مخصصات الفقراء والمحرومين لا تتحملها الخزينة العامة وتعتمد على المانحين في تمويلها. هذا يتطلب قبل أي شيء العمل على البحث عن مصادر دائمة لسد حاجة هذه الفئات المسحوقة.
تاريخيًا، مخصصات الفقراء والمحرومين لا تتحملها الخزينة العامة وتعتمد على المانحين في تمويلها. هذا يتطلب قبل أي شيء العمل على البحث عن مصادر دائمة لسد حاجة هذه الفئات المسحوقة
وزير الخارجية المالكي أكد ذلك، وقال "إن الإتحاد الأوروبي ما يزال يمنع وصول المساعدات المالية للخزينة الفلسطينية حتى الآن، وأنه لا يوجد أّي اختراق...". ما زال قرار التمويل الأوروبي مؤجلاً منذ سنتين. الرواية الرسمية للسلطة تقول إن سبب التأخير هو اشتراط الاتحاد الأوروبي إحداث تغيرات في المناهج التعليمية. مع توجيهها في كل مرة انتقادات قاسية لممثل المجر في الاتحاد الأوروبي، الذي بالمناسبة لا يتحدث بصفته ممثلاً عن الجمهورية المجرية، وليس هو الوحيد الذي يعارض استئناف التمويل.
تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا الموضوع عن مصادر فلسطينية ولم تضف أي شيء عليها. أوروبا الرسمية قالت إن العمل جار على الموضوع دون تفاصيل. فقط، عدد محدود من وسائل الإعلام هي من تحدثت بجديد من بعيد لبعيد، قناة عبرية أشارت مؤخرًا إلى وجود طلب أوروبي -أمريكي للسلطة الفلسطينية بإجراء الانتخابات العامة، وبوقف صرف السلطة لرواتب الأسرى وأسر الشهداء، لكنها لم تربطهما صراحة بالتمويل، وإن كان الموضوع قد يبدو لوهلة أنه مرتبط ومرتبط بشكل كبير.
صحيفة العربي الجديد هي الأخرى في تقرير نشر قبل أيام تحدث عن الموضوع أيضًا، ونقل عن مصادر لم يكشف عن هويتها أن من بين أسباب تأخر التمويل الحقيقية هو إلغاء الانتخابات العامة، وسجل السلطة في حقوق الإنسان، إضافة إلى شرطي تغيير المناهج ووقف صرف رواتب الأسرى وأسر الشهداء.
هنالك قرائن تؤيد احتمالية وجود مثل هذا الربط غير المعلن صراحةً حتى الآن، فعلى سبيل المثال، لم يكن انضمام وزير العدل إلى وفد السلطة في بروكسل من أجل البحث في المناهج التعليمية، لأن وزير التعليم موجودٌ فعلاً! وجود وزير العدل يتعلق بالقضاء الذي يمثل مفتاحًا رئيسيًا لحقوق الإنسان. القضاء يعاني كثيرًا منذ فترة، وتلقى التغيرات التي يحدثها فيه الرئيس اعتراضات شديدة من المجتمع المدني ونقابة المحاميين. لذلك قد يكون إحداث تغيرات جذرية في القضاء أحد الشروط التي يتوقف عليها التمويل حتى الآن. أيضًا، تصريح رئيس الوزراء اليوم عن أن السلطة ستقدم لمؤتمر المانحين في بروكسل أجندة إصلاح شاملة للحكومة، يلمح إلى شيء مرتبط بمكافحة الفساد والانتخابات -تلميحًا وليس تصريحًا.
منطقيًا، أن لا تتحدث السلطة بصراحة عن جميع الحقائق المرتبطة بتأجيل التمويل الأوروبي، لأننا أولًا لم نعهدها شفافة بما فيه الكفاية، ولأنه لن يتم تفهمها من الناس بالقدر الذي يمكن أن يتفهموها فيه بشأن المناهج ورواتب الأسرى
منطقيًا، أن لا تتحدث السلطة بصراحة عن جميع الحقائق المرتبطة بتأجيل التمويل الأوروبي، لأننا أولًا لم نعهدها شفافة بما فيه الكفاية، ولأنه لن يتم تفهمها من الناس بالقدر الذي يمكن أن يتفهموها فيه بشأن المناهج ورواتب الأسرى وأسر الشهداء، لا بل إن موقف السلطة من هذين الملفين قد يحظى بتأييد شعبي وصبر، على العكس تمامًا إن كان تأخر التمويل يعود لأسباب تتعلق بأداء السلطة نفسها، كإلغاء الانتخابات والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
في تلك الملفات لن يتفهمها الناس ولن يصبروا طويلاً عليها، وسوف تتصاعد معها المطالبات بالتغيير، تلك التي لن تتسامح معها السلطة مطلقًا، ولذلك تحاول المفاوضة وكسب المزيد من الوقت، وربما تقديم مزيد من الضمانات حول الملفات العالقة. ولعل تصريح وزير الداخلية أن أخطاء عناصر الأمن تعالج بشكل فوري وأن قمع المظاهرات لن يتكرر، هو جزءٌ من الضمانات المطلوبة. وإذا حصل أي تغيير قريب في القضاء أو الحكومة سوف يكون هو الآخر جزءًا من تلك الضمانات، لكن ذلك كله بدون تجريم علني للذات؛ أي بدون الإعلان عن جميع الأسباب المرتبطة بتأخير التمويل، التي أفترض أن جزءًا منها يعود لأداء السلطة ولا يقتصر على ملفي المناهج ورواتب الأسرى وأسر الشهداء، اللذين يمثلان فعلاً عقبة أمام تدفق التمويل من جديد، ولكنني اعتقد أن المسألة لا تقتصر عليهما.
من الصعوبة تحليل صمت الاتحاد الأوروبي حتى الآن، ولكن افترض أنه إما لا يريد أن يدعم شكوك الجمهور الفلسطيني برغبته في الوصاية على عقولهم (شرط تغيير المناهج)، أو دعم الشكوك الأخرى القوية المرتبطة بالانحياز لإسرائيل (شرطي المناهج ورواتب الأسرى وأسر الشهداء معًا). أو أنه لا يريد بالحديث عن الحقائق كاملة أن يحرج السلطة كثيرًا، لأن البديل لا يرضيه. ولكنه في مقابل ذلك، محرج أمام برلمانات الدول الأعضاء ودافع الضريبة الأوروبي وحركات المجتمع المدني هناك، التي قد تكون مؤيدة للتمويل المشروط، مثلًا: طالبت منظمة العفو الدولية "أمنيستي" عقب مقتل نزار بنات المعارض السياسي البارز؛ الولايات المتحدة وأوروبا إلى عدم تسييل الأموال لأجهزة الأمن الفلسطينية قبل أن تتأكد من كفاءتها في احترام وحماية حقوق الإنسان. وسبقتها في مثل هذا الطلب هيومن رايتس ووتش في العام 2018
من الصعوبة تحليل صمت الاتحاد الأوروبي حتى الآن، ربما أنه لا يريد بالحديث عن الحقائق كاملة أن يحرج السلطة كثيرًا، لأن البديل لا يرضيه
ربط التمويل بملفات حقوق الإنسان والفساد هو جزءٌ من المسؤولية التي تتحملها الكيانات المختلفة في العالم الثالث جراء تماديها في انتهاكات حقوق الإنسان والفساد، وهي من ضمن أدوات المساءلة التي يدعو لها بعض الخبراء في الأمم المتحدة، ولكن فعالية تلك الأدوات محل شك بالنسبة إلى الدول المهمة استراتيجيًا لحفظ الأمن الإقليمي والحد من الهجرة لأوروبا، لذلك هي لم تحقق نتائج مذهلة مع مصر مثلًا المهمة جدًا لأمن المنطقة. ومستحيل أن تجدي هذه الأداة نفعًا مع السعودية، لأنها لا تحتاج لأي أموال، إلا أن الأخيرة مؤخرًا فقط قبلت التقييد الذاتي لغايات استثمارية وتحسين صورة ولي عهدها. طبعًا "إسرائيل" خارج معادلة أي أدوات مساءلة دولية بأي شكل كان باستثناء حركة المقاطعة الشعبية لأسباب نعلمها جميعًا. ومن هنا يتحدث كثيرون عن استخدام الغرب لحقوق الإنسان ومكافحة الفساد كمفاهيم للهيمنة على العالم الثالث، وإن رأيت في ذلك منفعة ما للشعوب المسحوقة.
السلطة الفلسطينية ليست مصر وليست السعودية، فهي وإن كانت مهمة جدًا لحفظ الأمن في الضفة الغربية، إلا أنها تعتمد كثيرًا على أموال المانحين، وتعتمد أيضًا على أن تكون لها صورة جيدة أمام المجتمع الدولي لأسباب مرتبطة بالاحتلال. ولذلك لا بد أن تستجيب في نهاية المطاف للضغط بتقديم ضمانات حقيقية لحل الملفات العالقة، حتى تحصل على الأموال وتتمكن من دفع الرواتب وصرف المساعدات.
تسيل الأموال الأوروبية للفلسطينيين، يذهب معظمها لمشاريع إنسانية، ويذهب جزءٌ آخر لأجهزة مدنية من ضمنها الشرطة. هذا لن يؤثر كثيرًا -في المدى البعيد- على موظفي الأمن (يتلقون تمويلاً مباشرًا من الولايات المتحدة) ولا على كبار المسؤولين في السلطة، ولكن حتى تستمر السلطة بجزء ولو يسير من الشرعية المفقودة في الشارع لا بد أن تدفع رواتب لجميع موظفيها وباستمرار، كما لا بد أن تقدم مساعدات للفقراء والمحرومين، والأخيرة متوقفة على التمويل الأوروبي المؤجل حتى الآن، لأسباب يعود جزء منها على ما يبدو لأداء السلطة ذاتها.
هذا مجرد تحليل شخصي وربط وقائع ببعضها بعضًا، وهو جزءٌ من حق الجمهور في معرفة الحقائق، باعتبار أن معظم الصحافة المحلية مشغولة كثيرًا هذه الأيام في انتخابات الهيئات المحلية، أو في حرمان الجمهور من حقه في الحصول على المعلومات كما هي. ويبدو لي أن حساسية السلطة الشديدة تجاه هذا الموضوع، تمنع الصحافة من مناقشته بشكل حر وعلى نطاق واسع. لقد كان حديث نزار بنات عنه من بين الأسباب التي اعتبرها البعض سببًا رئيسيًا في العنف الذي تعرض في وقت لاحق. ومع ذلك، الحرية تعني أنه لا شيء محصن في الحيز العام من البحث والانتقاد والاتهام، لا قرارات ولا أشخاص ولا غيرهما، لا سيما في ظل انعدام الشفافية.
اقرأ/ي أيضًا: