اختارت صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية عبارة "الجواسيس في داخلنا" عنوانًا رئيسًا لصحفتها الأولى، لنشر الجزء الأول من سلسلة تقارير أعدّها خبيرها في الشؤون الاستخبارية رونين برغيمان، تحمل عنوان: "هكذا جنّد الـ كي جي بيه أعضاء كنيست وضباط برتبة لواء في الجيش: قصة اختراق الأجهزة الاستخبارية الروسية للدولة".
الوثائق قديمة سرّبها ضابط روسي
تحقيق الصحيفة كشف وثائق سرية، لفاسيلي ميتروكين، وهو ضابط رفيع سابق في جهاز المخابرات السوفيتية "كي جي بيه"، توضح آلية تشغيل الجواسيس في "إسرائيل"، وتتضمن قائمة بأسماء الجواسيس.
الاتحاد السوفييتي استطاع اختراق مستويات عديدة في "إسرائيل" وتجسس عليها بواسطة جواسيس سوفييت وآخرين إسرائيليين
على مدار سنوات طويلة نسخ، فاسيلي متروكين، آلاف الوثائق السرية التي وثّقت أكثر أسرار المخابرات السوفييتية أهمية. وعندما انشقّ هاربًا إلى الغرب في سنوات التسعينات، حاملًا معه الكنز السري، تسبب بزلزالٍ استخباري كاشفًا عددًا غير محدود من الجواسيس، وتفاصيل عمليات سريّة نفذت على امتداد الكرة الارضية.
اقرأ/ي أيضا: أسرار اهتمام الإعلام الإسرائيلي بـ"معركة الموصل"؟
وثائق فاسيلي، توثّق أنشطة التجسس المكثفة التي نفذتها أجهزة الاستخبارات الروسية في "إسرائيل"، ولكنها لم تنشر في السابق، حتى حصل عليها خبير الشؤون الاستخبارية في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، واستخرج منها قائمة بأسماء شخصيات عملت كجواسيس لدى "كي جي بيه"، ضمّت نوابًا في الكنيست، وضبّاطًا كبار بجهاز الاستخبارات، وإعلاميين، ومهندسين عملوا في مشاريع حساسة، وضباطًا كبار في قيادة الجيش الإسرائيلي.
في بداية عام 1992، بدأ خبراء الاستخبارات الغربيين في تحليل وثائق فاسلي، التي سلمها للمخابرات البريطانية وكانت توثيقًا للعمليات الخاصة لـ"كي جيه بيه"، وجراء ذلك أُلقي القبض على جواسيس في أنحاء متفرقة من العالم، وتم الكشف عن أساليب عمل الجهاز. هذه العاصفة التي أثارتها الوثائق أثّرت أيضًا على "إسرائيل"، ولكنّ غالبية الوثائق المتعلقة بنشاط "كي جي بيه" لم يتم نشرها.
عملية نوعية ووسائل متعددة
في تشرين الأول من عام 1970، أصدر يوري فلاديميروفيتش اندروبوف، رئيس جهاز "كي جي بيه"، تعليمات بتنفيذ عملية في غاية السرية، تحمل اسم "تي آن"، وكلف (القسم C) بموجبها بإعداد جواسيس سيتم إرسالهم إلى اسرائيل.
وكان الحديث يدور عن "جواسيس النخبة" الذين يتم اختيارهم بعد مسارٍ طويل ومنهك من التأهيل، يتضمن تعليم اللغات، ومهارات القتال، وممارسة النشاط التجسسي تحت غطاء قصص مختلقة، بالإضافة لمهارات مخابراتية أخرى. وفي نهاية مسار التدريب يُجرى طقس خاص يتم فيه الاحتفال بتخريج كل جاسوس بشكل منفرد لدواعي أمنية.
عملية "تي آن" ولدت من رحم الإحباط المتواصل لدى الروس. فخلال سنوات طويلة رأت "كي جي بيه" في "إسرائيل" هدفًا استخباريًا مفضّلًا وأنشأت فيها شبكات تجسس عبر السفارة السوفيتية.
الكثير من الدبلوماسيين السوفييت كانوا رجال مخابرات جنّدوا عددًا كبيرًا من الجواسيس والعملاء. ولكن هذه الحالة انتهت في 12 تموز/يوليو عام 1967، بعد حرب حزيران، حيث قطع الاتحاد السوفيتي وحلفاءه العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل". عندها حاولت المخابرات السوفيتية ممارسة التجسس، حسب الصحيفة، على "إسرائيل" عن طريق الكنيسة الروسية بالقدس، ولكن تلك الطريقة كانت بطيئة.
رأى الاتحاد السوفييتي في "إسرائيل" هدفًا مفضلاً للتجسس وأغلب دبلوماسييه كانوا رجال مخابرات وجندوا عملاء إسرائيليين
وعلى ضوء ذلك، قرر رئيس "كي جي بي" إطلاق "هجوم استخباري، وخصص لهذه المهمة خمسة جواسيس نخبة: أربعة رجال وامرأة. وهذا رقم استثنائي في عالم المخابرات. فكل مقاتل يتم بناء قصة تغطية له؛ وهذا يتطلب عملية لوجستية واستخبارية معقدة تستهلك الكثير من الموارد. وعندما يشارك في العملية خمسة جواسيس فهذا يعني أن العملية مهمّة جدًا.
ملف العملية نشرته الصحيفة العبريّة يوم الجمعة 28 تشرين أول/ أكتوبر، لأول مرة، وتناول وصول الجواسيس إلى "إسرائيل" عام 1971 بعد أن تم بلورة قصص تغطية سهَّلت تقمصهم شخصية شبان يهود سوفييت هاجروا لـ"إسرائيل". كل هذه العملية تمت تحت أنف جهاز المخابرات الاسرائيلية "الشاباك" دون علمه، وربما لو لم تنشر "يديعوت أحرنوت" الملف ما كان لـ"الشاباك" أن يعرف، كما نوّهت الصحيفة.
تولى المسؤولية عن "الجواسيس" ضابط رفيع متفوق، يتحدث ثماني لغات، اسمه الحقيقي يوري لينوف، كلف جواسيسه باستعادة الاتصال مع شبكات الجواسيس الذين جندتهم السفارة السوفييتية في السابق، التي تضم في عضويتها أعضاء كنيست، ولواء في الجيش، شغل منصبًا قبل فترة ليست طويلة، وكان في هيئة الأركان، وسفيرين أجنبيين عملا في "إسرائيل"، وموظفة رفيعة في السفارة الألمانية، ومفكّر مهم، وشخصيات إعلامية، وجاسوسين من قلب الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، أحدهم لُقب بـ"ملينكا" وكان ضابطًا رفيعًا في "الشاباك" في قسم مكافحة التجسس.
القائد، لينوف، زار "إسرائيل" مرتين، لدراسة الميدان، وفي عام 1971، انضم إلى معهدٍ لتعليم اللغة العبرية، وجمع معلومات عن منشآت استراتيجية، أرسلها عبر جهاز اتصال إرسال إلى "كي جي بي". وفي عام 1973، رجع إلى تل أبيب مجددًا بهدف استئناف الاتصال بشبكة الجواسيس المحليين.
شخصيات رفيعة تجسست ضد دولتها
تم اكتشاف أحد الجواسيس وكشف هوية مشغله الجديد، وسارع لينوف، إلى إتلاف كل الأدلة قبل وصول رجال "الشاباك" إليه، وهذا يعزز فرضية أنه حصل على معلومات من داخل "الشاباك"، وأدلى لينوف باعترافات لمحققيه؛ تبين لاحقًا أنها كاذبة، وقد تم الإفراج عنه بعد عدة شهور في سياق صفقة تبادل أسرى.
بعد أن حصلت المخابرات البريطانية، على كامل الوثائق، سمحت لمخابرات صديقة بالاطلاع عليها، وكان "الشاباك" من بينها، وتبين وجود اسم لواء بالجيش، بالإضافة الى مستشار رفيع المستوى زُرع في "إسرائيل" خلال السبعينات، ثم تحول إلى شخصية رفيعة في بؤر القوة داخل "إسرائيل".
هذا الشخص يشغل مكانة رفيعة وله نفوذ كبير في "إسرائيل" حتى اليوم، وترفض الرقابة العسكرية الإسرائيلية نشر اسمه. وكانت القناة العاشرة الإسرائيلية بثّت قبل عدة سنوات، تحقيقًا مطوّلًا عنه ادعى فيه بعض الضباط الإسرائيليين السابقين أنه جاسوس سوفييتي، وربما جاسوس روسي حالي.
أحد الجواسيس السوفييت شغل مكانة رفيعة وكان له نفوذ كبير في إسرائيل وترفض الرقابة العسكرية نشر اسمه
وحسب الوثائق، تجسست "كي جي بي" على "إسرائيل" أحيانًا عبر أجهزة مخابرات صديقة من الكتلة الشرقية. مثلًا نجح جهاز المخابرات البلغاري في اختراق "إسرائيل" عبر 36 يهوديًا هاجروا إليها؛ وعملوا كجواسيس في الفترة الواقعة بين عام 1947 - 1950، من بينهم صحفي عمل لاحقًا في مكتب سكرتيريا الرئيس الاسرائيلي الأول حاييم وايزمان.
وفي عام 1950، شرعت المخابرات السوفييتية، بعملية تجنيد جواسيس في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وبالفعل نجحت بتجنيد عضو الكنيست يعقوب ريفتان، من حزب "مبام"، الذي كان عضوًا في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، الأمر الذي مكّنه من نقل الوثائق الأكثر سرية إلى السوفييت.
وتظهر الوثائق أيضًا أن سياسيًا آخر من حزب "مبام" تجسس لصالح السوفييت هو عضو الكنيست موشيه سينه، والد الوزير الاسرائيلي السابق افرايم سينه.
وتشير وثائق فاسيل كذلك إلى أن الروس زرعوا جاسوسًا في جهاز "نتيف" الاستخباري الذي كان متخصصًا بإدارة العلاقة السرية مع اليهود داخل الاتحاد السوفيتي، وبفضل ذلك وجّهوا في عام 1970 ضربة لـ"نتيف".
وفي نفس العام نجح "كي جي بيه" بتجنيد موظف رفيع بوزارة الخارجية، يدعي زئيف افني، كان يمثل "الشاباك" و"الموساد" في بلجيكا، وكشف لهم رموز الشيفرة التي تستخدمها "اسرائيل" في التواصل مع سفاراتها في العالم، إلى جانب العديد من عملاء الموساد في قارة أوروبا.
واهتمت "كي جي بيه" بتجنيد الصحفيين في "إسرائيل"، لأنها كانت تعتقد امتلاكهم القدرة على الوصول إلى معلومات هامة، ومن بين الأسماء الواردة في الوثائق، الصحفية آيبيا ستان، وصحفي آخر كان مقربًا من قيادة الدولة.
السوفييت اخترقوا أحد أربعة أماكن تعتبر الأشد سرية في "إسرائيل"
كما حققت الـ "كي جيه بي" نجاحات في زرع جواسيسها في الصناعات العسكرية، فعملوا في مجال تطوير سلاح الطيران والمدرعات، وأحدهم شغل منصبًا رفيعًا جدًا في التصنيع العسكري. أمّا البروفسور ماركوس كلينيبرغ، فقد تجسس على المعهد البيولوجي الإسرائيلي، وهو واحدٌ من أربعة أماكن تعتبر الأشدّ سريّة في "إسرائيل" على مدار 30 عامًا، حيث شغل فيه منصب نائب المدير.
اقرأ/ي أيضا: دماء "الهنود الحمر" من أجل غسل ذنوب إسرائيل
ويتصدر كل النجاحات، حسب الصحيفة العبرية، نجاح "كي جي بيه" بتنجيد لواء في الجيش وأحد "الجواسيس داخلنا".. تحقيق يكشف كيف تجسس الروس على إسرائيلأعضاء هيئة الأركان. وعندما وصلت وثائق فاسيلي لـ"إسرائيل" عام 1993، واجه "الشاباك" اللواء بالأمر واعترف، ونظرًا لكبر سنه ووضعه الصحي المتدهور، ولتحاشي الإحراج الذي ستقع فيه "إسرائيل" وجيشها تقرر عدم محاكمته ونشر تفاصيل القضية.
الحلقة الأولى من سلسلة "جواسيس في داخلنا"، التي ستواصل نشرها صحيفة "يديعوت أحرنوت" واسعة الانتشار، تشكِّل جرعة صادمة من المعلومات، سيصعب على الإسرائيلي العادي، الذي تربى على نظرية "الموساد" و"الشاباك" القادر على كل شيء تجرُّعها، ولكن أخطر ما ورد في التحقيق، هو الإشارة إلى تقديرات ترجِّح أن بعض هؤلاء الجواسيس ما يزال يمارس مهامه لصالح الروس.
اقرأ/ي أيضا:
إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"