تحوّل الدرب الحجري القديم الممتد لنحو 100 متر وبعرض متر تحت السقف المُقبّب في سوق الذهب بمدينة غزة، إلى مجرّد مسلكٍ يؤدي إلى المسجد العمري الأثري فقط، فيما بريق الذهب من واجهات المحلات على الجانبين لا يستوقف أيًا من أولئك المشاة.
تلك المحال المتلاصقة التي يقترب عددها من المئة، والتي لا تتجاوز مساحة أحدها أربعة أمتار مربعة، عايشت عصرين ذهبيين كما يعتقد تُجّار ذلك المعدن الثمين. أولهما في أواخر التسعينات، والثاني من عام 2011 إلى عام 2013، ثم انطفأ ذلك البريق، ولا يزال فاقدًا لتوهجه للسنة الخامسة على التوالي، ليسجل الذهب هبوطًا حادًا في الحركة الشرائية حاليًا بنحو 20 ضعفا أقل مما كان عليه في تلك الحقبتين.
الذهب في قطاع غزة يسجل هبوطًا في الحركة الشرائية بنحو 20 ضعفًا أقل مما كان عليه قبل 5 سنوات، أو في أواخر التسعينات
ياسر حبّوب، الذي يملك أحد تلك المتاجر، يقول إن العمال الذين عملوا طويلاً في "إسرائيل" وحتى خريف 2003 كانوا لا يعودون إلى منازلهم؛ إلا بزيارة سوق الذهب والعودة إلى نسائهم بسوارٍ ذهبي على الأقل بزنة 40 – 50 جرامًا، وشكّل ذلك مخزونًا جيدًا لدى العائلات باعتباره ملاذًا آمنًا.
اقرأ/ي أيضًا: المحل للإيجار.. الإعلان الأشهر في غزة
ويضيف، "في الفترة الثانية (2011-2013) توافر لدى الأهالي السيولة النقدية، فتمكنوا من شراء كميات من الذهب، وكان التاجر المحترف يفخر أنه باع كيلوغرامين يوميًا، في حين أن أحدهم لا يبيع سوى 100 جرام أسبوعيًا خلال الفترة الحالية". ويبلغ سعر الجرام الواحد 37 دولارًا من عيار 21.
هؤلاء التجار الذين يقضون معظم وقتهم في إعداد الشاي وشربه، والتحدث إلى أصحاب المحلات المجاورة، يقولون إن الأشهر الأخيرة شهدت إغلاق بعض المحال بعد أن تعرض أصحابها لأزمات مالية قاسية، فيما تفرغ آخرون لمواجهة التداعيات القانونية للإفلاس.
وبين حبوب، أن اعتماد التجار على توريث تعليم المهنة لأبنائهم وأقاربهم من الدرجة الأولى أدى لعدم تطور صناعة الذهب وبقائها في شكلها التقليدي، عدا أن هذه المهنة لم تدخل ضمن المهن الصناعية.
صناعة الذهب في غزة لم تدخل ضمن المهن الصناعية، وتوريث تعليمها للأبناء والأقارب أبقاها في شكلها التقليدي
تؤكد نقابة العاملين في صناعة وتجارة الذهب والفضة والمجوهرات في غزة أن غالبية مشاغل الذهب البالغ عددها 20 مشغلاً تقريبًا شبه متوقفة. حتى أصحاب تلك المشاغل اكتفوا من بعيد بإيماءة رفض الحديث معنا.
اقرأ/ي أيضًا: تجار وموظفون رايحين جايين على سجون غزة
تلك المشاغل –بحسب النقابة – كانت تعيد تشكيل نحو 120 كيلوغرامًا، أما حاليًا، ومع تردي الأوضاع الاقتصادية والإجراءات التي اتخذتها حكومة الوفاق ضد غزة، فلا تنتج سوى خُمس ذلك الوزن تقريبًا.
يرى غسان لولو، سكرتير النقابة، أن العبارة الشهيرة بين التجار التي تقول إن أول ميزان يعمل وآخر ميزان يتوقف في عمليات الشراء اليومية على مدار الشهر هو ميزان الذهب، لم تعد تنطبق على حالة الأسواق في غزة منذ زمن.
ولا زالت العرائس هن الفئة الأكثر اهتمامًا باقتناء هذا المعدن النفيس، لكن الأمر لم يعد كما كان في السابق، بحسب تاجر الذهب عادل طبازة.
ويقول طبازة: "كانت العروس حتى العام 2002 تخصص جزءًا من مهرها لشراء 400 جرام، لكنهن (العرائس) اليوم يكتفين بـ40 أو 50 غرامًا، بل إن بعضهن يشترين ما يُسمونه الذهب الصيني المقلد، حيث يمكن شراء سوارٍ منه بـ 10 دولارات فقط".
الذهب الصيني المقلد حل بدلاً من الذهب بالنسبة لعرائس غزة، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية
ويرى تجار الذهب أن المنفذ الضيق والوحيد يتمثل في السماح لهم بنقل 24 كيلوغرامًا أسبوعيًا وبيعها في أسواق الضفة، والعودة ببعض السيولة النقدية التي قد تحرك السكون المالي في غزة، وتحدث انتعاشًا ضئيلاً ولفترة زمنية محدودة جدًا.
ووفق وزارة الاقتصاد، يعتمد قطاع غزة في تجارة الذهب بالدرجة الأولى على الصناعة المحلية، فيما تصل نسبة المستورد إلى 20%، ويعمل في المهنة نحو 200 تاجر.
قبل أن أترك ذلك السوق المُعتم، لفتت انتباهي سيدة برفقة حفيدتها كانتا تهماّن بالدخول إلى أحد تلك المحال. "إجيت لهذا السوق وأنا عروسة شارية، واليوم إجيته وأنا عجوزة بايعة". تقول صالحة يونس (70 عامًا).
السيدة صالحة وأقرانها قد لا يقتنعن بمقولة الأديب الفرنسي "جان دي لابرويير" الذي قال يومًا: "ليكن وجهك باسمًا وكلامك ليّنًا، تكن أحبّ إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة"؛ فالظروف التي عاشها سكان القطاع على مدار سنوات الحصار ليست بحاجة إلى حكمٍ ذهبية، بقدر الحاجة إلى إنهاء ذلك الحصار إلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا:
المصالحة لم تحرك مياه السيارات الراكدة في غزة