كتب بلال فضل في مقدّمة مقاله (مسطردة القطة وعلف الخنزيرة): "كيف تجعل الناس يقبلون بلا تذمّر ما كانوا يرفضونه بالأمس؟"، سؤال يطرحه أحد النازيين على زميله في مشهد مسرحيّ كتبه الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريشت، فيشير النازيّ الآخر إلى قطة تستلقي تحت الشمس قائلًا لزميله: لنفترض أنّك تريد أن تُطعم هذه القطة ملعقة كبيرة من المسطردة (الخردل)، سواء كرهت القطة ذلك أم أحبّته، ماذا تفعل؟
نوعان من الآلام تراهن عليها الأنظمة القمعية لتخويف شعوبها؛ الآلام الحقيقية التي تخلقها هي متعمدة، وآلام غير حقيقية، تخلقها الأنظمة لتخويف مواطنيها
يقترح صديقه أخذ ملعقة المسطردة وإدخالها إلى فم القطة قسرًا، فيذكِّره صديقه بأنّ القطة ستبصق "المسطردة" على الفور بدون أن تبلع نقطة منها، ولن ينوبه من محاولته سوى خربشات لا تعد ولا تحصى، ثم يطلب من صديقه المندفع أن يراقبه جيدًا، حين يتناول ملعقة المسطردة "الخل" ويقوم بسرعة ماهرة بلصقها بمؤخرة القطة البائسة التي ستحاول وهي مأخوذة من شدة الألم، أن تلعق المسطردة كلّها لعلّها تستريح من الألم، قائلًا لصديقه بلهجة المنتصر: "هل ترى يا عزيزي؟ الآن تلتهم المسطردة وبكامل إرادتها".
هل يبدو المجال مناسبًا لعقد مقارنة بين معاناة القطّة ومعاناتنا كمواطنين محكومين بأنظمة سلطوية متجبّرة تتفنن في إيلام مواطنيها كي يتقبّلوا بلا تذمّر ما كانوا يرفضونه بالأمس؟
أظنّه مناسبٌ تمامًا.
في هذه المقارنة تبدو القطة المسكينة محظوظة. فعلى الأقل الألم على مؤخرتها حقيقيّ وكذلك (الخردل). وحقيقيٌ أيضًا أنّها كلما لعقت مؤخرتها سيخف الألم، بالتأكيد يبدو هذا تنازلًا منها لأنّها أكلت بشكل إجباري ما لا ترغب بأكله، ولكنّها في النهاية تدفع الثمن الذي يتطلبه تخفيف الألم في تلك اللحظة. أمّا المواطنون فإن إيلامهم لا يتم دائمًا بما هو حقيقي مثلما حدث مع القطة، بل وفي أغلب الأحيان يحدث الإيلام بالوهم. وهذا الوهم قادرٌ على خلق آلام لا حصر لها. ولا طريقة للتخفيف من ألم مصدره الوهم. أليس كذلك؟
هنالك نوعان من الآلام التي تراهن عليها الأنظمة لتخويف شعوبها؛ الآلام الحقيقية التي تخلقها هي متعمدة، كالاعتقال السياسي، القمع، الاغتيال، تجويع الناس وتجهيلها. وهنالك آلام غير حقيقية، تخلقها الأنظمة لتخويف مواطنيها، وغالبًا ما تكون على شكل استغلال للحروب في الدول المجاورة أو خلق عدو خارجيّ يتربّص بالبلاد وينتظر اللحظة التي يطالب فيها مواطنو هذه البلاد بـ"العيش، الحرية، العدالة اجتماعية" حتى يجهز جيشه لاحتلالها!
يبدو مثيرًا للتعجب كيف يمكن للأنظمة الديكتاتورية وبكل غباء الربط بين الأمرين، ويبدو مثيرًا للقلق أن يصدّق بعض الناس هذا، أن يبنوا أفكارهم ومعتقداتهم ويحددوا توجهاتهم السياسية بما يسمح للديكتاتور أن يسيطر أكثر على البلاد كي "يحميها"!
حسنًا، تبدو أحاديث خلق الخوف والألم فنًّا لا يتقنه إلا زعماء العرب، رغم أن بعضًا من رؤساء الغرب ومجانينه قد أعجبتهم فكرة التخويف هذه وباتوا يمارسون لعبة الإيلام بالوهم، إلّا أنّ منظومة المؤسسات القانونية والحقوقية التي تتمتع بها الدول الغربية قد تحمي مواطنيها من جنون روؤسائهم إن هم قرروا الانتقال الى مستويات متقدمة من العنف في هذه اللعبة، أمّا نحن فمن يحمينا من الطغاة؟ ومن مؤسسات دولتهم؟ من يحمينا من أنفسنا؟
اقرأ/ي أيضًا:
خفايا أزمة المفصولين من "إعلام النجاح"