لا تزال وظائف الأقنعة في كل الحضارات والثقافات مُتعددة وغير محصية، فقد ارتبطت بفكرة الحماية والتنكر والسخرية، وكذلك الاحتفالات والطقوس الدينية. ونجدها أيضاً في حكايات البعث والخلود، وفكرة طرد الأرواح الشريرة، وقد لا يخلو الأمر من التسلية والمرح.
لكن أهم وظائف الأقنعة تاريخيًا هي الوظيفة الحربية، التي تبعث على الشجاعة والقوة، حيث كان المحاربون يُغطون وجهوههم بأقنعة من جلود الحيوانات لإرهاب العدو وإخافته، ولإخفاء ملامح وجوههم لتبدو أكثر قسوة. ثمّ ولدت فكرة الحماية حرصًا على وجوه المحاربين وحمايتها من ضربات الرماح والسيوف، فصارت تُصنع الأقنعة من الخشب والمعادن.
للأقنعة وظائف عديدة تاريخيًا، لكن أبرزها هي الوظيفة الحربية، وهذه بدأت بجلود الحيوانات لإرهاب العدو، ثم تطورت لحماية الوجوه
ورغم تعدد وظائف الأقنعة، إلا أنه قد يطغى بعض استعمالاتها ويختزلها في شكلٍ مُحدد، كما في الحالة الفلسطينية، إذ صار اللّثام (كوفية القماش) قناعًا للمُقاوم يُخفي من خلفه وجهه الحقيقي، جاعلاً هويته الجديدة تنبعث من شكل القناع الذي يرتديه. فمُهمة الأقنعة للمقاومة الفلسطينية هي إخفاء الملامح الحقيقية لوجه مُرتديها، بحيث يُشكل ما خلف القناع لغزًا غامضًا مجهول الهوية الشخصية للآخرين، وهو نابع من دافع أمني خلقته ظروف المقاومة وضرورة التخفي عن الاحتلال، حتى صارت هذه الأقنعة ذاتها لغزًا في تشكلها وتعدد ألوانها وبدء اللجوء إليها.
قناع الفلسطيني لم يكن وليد المرحلة المُرتبطة بمقاومة المشروع الصهيوني، فالأقنعة عُرفت في الحضارات الزراعية الأولى التي نشأت في بلادنا قبل 10 آلاف سنة. ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم طوّر الفلسطينينون أنماطًا مختلفة من الأقنعة التي لا حصر لها، بدءاً من القناع الحجري وانتهاءً بالقناع القماشي "الكوفية".
وتحكي روايات تاريخية عن ثورة أبو حرب تيم اليماني، الذي ثار في عهد الخليفة المعصتم العباسي (227هـ- 228هـ)، وقد سُمّي بـ"المبرقع" لأنه لبس قناعًا وأخفى معالم وجهه، وصار يدعو إلى الثورة حتى تجمع معه نحو 100 ألف ثائر من الفلاحين في جبال الغور والواد الأحمر ونواحي فلسطين، قبل أن يزحف عليه عسكر المعتصم ويقضون على ثورته عند مدينة الرملة، وينقل أسيرًا إلى بغداد وهو مُصاب.
اقرأ/ي أيضًا: تشبارة الفلاحين.. صناعة حققت اكتفاء ذاتياً قبل قرن ونصف
بعد ذلك بكثير، وتحديدًا في النصف الأول من القرن الماضي، جعل الأديب الفلسطيني يعقوب العودات اللثام توقيعًا على منشوراته في المجلات والصحف الأدبية، فكان ينشر باسم "البدوي المُلثم"، وذلك لأنه رأى في بداية القرن العشرين بدوياً ملثماً يسير في شوارع رام الله بهيبة ووقار، فأحدث في نفسه أثراً.
هذا اللثام، هو ذاته الذي ارتداه العربي في ثورته الكبرى في فلسطين، خلال سنوات 1936-1939، ليُصبح بأمر من قيادة الثورة لباساً إلزامياً لكل الرجال، تجنباً لملاحقة الإنجليز للثوار الذين يعتمرون الكوفيات التي تتحول ساعة الجد إلى لثامٍ يُخفي وجهوهم.
لكن أين أقنعة الفلسطينين الأوائل صُناع أول حضارة عرفتها البشرية؟
في عام 1973، وبينما كان أحد الفلاحين يحرث بأرضه غرب منطقة الخليل، عَثر بالصدفة على مغارة وجد فيها قطعاً أثرية كان أحدها قناعاً حجرياً بحالة جيدة. فسارع لبيعه لتاجر آثار باعه بدوره للجنرال الإسرائيلي موشي ديان. كان القناع فاتح شهية للص الآثار المُحترف المتهم بسرقة آلاف المقابر والمواقع الأثرية في فلسطين وسيناء.
الجنرال الإسرائيلي موشي ديان سرق آلاف المقابر والمواقع الأثرية في فلسطين وسيناء، واشترى آثارًا من فلسطينيين
بعد ذلك بعشر سنوات، وتحديداً في شهر نيسان/إبريل 1983، وبينما كانت بعثة أثرية من جامعة هارفارد تجري أعمال تنقيب في تلال الصحراء، وجدوا كهفاً يبدو أنه كان يستخدم لتخزين الأشياء المُتعلقة بالأسلاف للفلاحين الأوائل في فلسطين، أو هو مكان شعائري مُهم يعود لعصور موغلة في القِدم.
اقرأ/ي أيضًا: متلازمة الأدراج تهلك آثار نابلس
كان الكهف مليئاً بالأدوات الأثرية من سلال مصنوعة من الحبال وخرزات خشبية للزينة، وسكاكين من الصوان، ورؤوس سهام ومنجل، وأشكال محفورة من العظم، وجماجم بشرية منقوشة بالسواد، وأقمشة مُطرزة ربما كانت تستخدم سابقاً كملابس للطقوس الدينية. كما وجدوا أجزاءً من قناعين حجريين وجدائل من الشعر، وهذه الأقنعة الحجرية كانت لرجال بالغين، وذلك لوجود شوارب ولحى على القناع.
توالت بعدها عمليات السرقة الفردية والاستكشافات المنظمة التي جابت السفوح الشرقية لجبال القدس ومناطق البحر الميت. ليعلن أخيراً الكشف عن وجود 15 قناعاً تعود للعصر الحجري الحديث، أي قبل 9 آلاف سنة، وهي الأقنعة الأقدم من نوعها في العالم. وقد عرض الاحتلال الإسرائيلي 12 قناعاً منها في "متحف إسرائيل" في مدينة القدس المحتلة قبل أعوام.
كانت الأقنعة المعروضة في المتحف قد سبق وأجريت عليها دراسات من قبل علماء ومختصين إسرائيليين، ونشروا دراساتهم وأبحاثهم عنها، فجاءت مخيبة لآمالهم ومثبتة بما لا يدع مجالاً للشك أنها تنتمي للحضارة البشرية الأولى في فلسطين.
علماء آثار إسرائيليون أجروا دراسات على أقنعة عثروا عليها في فلسطين معروضة في أحد متاحف القدس، فوجدوا أنها تنتمي للحضارة البشرية الأولى في فلسطين
أقنعة صنعت من الحجر الجيري، وهو ما جعلها تتحمل البيئة الصحراوية الجافة، وتتراوح أوزانها بين كيلو غرام واحد أو اثنين.، وهي ذات فتحات مستديرة للعيون، وأنوف صغيرة وعرض بارز من الأسنان، وفيها شبه كبير مع الجمجمة البشرية. وبحسب المُختصين الذين أجروا دراسات عليها لمدة 10 سنوات، فإنها في الأصل كانت ملونة لوجود بقايا طلاء على بعضها.
ووجود الثقوب الصغيرة على أطراف الأقنعة يشير لوجود مادة أو طريقة لتثبيتها على الوجه، وقد تكون هذه الثقوب مُعدة لملئها بالشعر كي تظهر بأنها وجوه حقيقية. وقد تبين من خلال دراسة هذه الأقنعة، أن لكل منها قياسات وأبعاد متفردة، وهي قطع تتناسب مع الوجه البشري الذي رُبما صنعت قياساً عليه.
وحين نتحدث عن الأقنعة الفلسطينية الأولى، التي تعود لأكثر من 9 آلاف عام، فنحن نتحدث عن الحضارة النطوفيية، أولى الحضارات في فلسطين، والتي شهدت تحولا في حياة الإنسان من الصيد والاستهلاك، إلى الزراعة والإنتاج الغذائي، إذ بدأت هذه الحضارة من فلسطين لتمتد بعدها لبلاد الشام ثم العراق ومصر.
ففي هذا العصر هجر الإنسان القديم المغاور والكهوف، وانتقل إلى السهول وضفاف الوديان، حيث أقام القرى وسكن فيها. ويعتقد المؤرخون أن فلسطين كانت مهد الزراعة الأولى ومنها انتقلت الزراعة إلى بقية مناطق العالم.
تم العثور على أقنعة نادرة صنعها مزارعون قدامى، وتشبه إلى حد كبير ملامح وجه الفلسطيني الأول الذي عثر على جمجمته في تل السلطان في أريحا
إن هذه الأقنعة النادرة، بحسب المختصين الذين عكفوا على دراستها، صنعها مُزارعون بعد أن تخلى أسلافهم المُباشرين عن الصيد، وتجمعوا في مناطق الأغوار وتلال السفوح الشرقية وجبال الخليل والصحراء الجنوبية، مُشكلين نواة الحضارة الأولى في فلسطين، وهي تشبه إلى حد كبير ملامح وجه الفلسطيني الأول الذي عثر على جمجمته في تل السلطان في أريحا، وأعيد مؤخراً عبر تقنية ثُلاثية الأبعاد تشكيل صورته الحقيقة التي تعود الى حوال 9500 سنة.
اقرأ/ي أيضًا: مشهد نابلس الثقافي.. تاريخ من ذهب وحاضر يرثى له
لكن يبقى السؤال المُهم لماذا صنع أجدادنا صُناع أول حضارة في التاريخ هذه الأقنعة الحجرية التي تتطابق مع الوجه البشري؟
الفرضيات المطروحة حول ذلك كثيرة، والدراسات التي أجريت على الأقنعة الـ15 تفترض بأن أجدادنا المزارعين حاولوا بإتقان صناعة تماثيل تحمل صورة أسلافهم، أو صور أبطالهم الأشهر والأهم، في عصور ما قبل الحضارة، ولعلهم استخدموها في الطقوس الدينية والاحتفالات، بحيث كانوا يشعرون بحضور الأسلاف والأجداد معهم في الحياة ببقاء هذه الأقنعة التي تمثل وجوههم الحقيقية. أو لعلها كانت تُشكل لديهم شعوراً بالقوة على الأعداء، لأنهم يحملون وجوه أبطالهم الأقوياء الذين سمعوا قصصهم ورووا حكاياتهم.
وإن صحت هذه الفرضية فهي ليست جديدة ولا مُستهجنة عند العرب، ذلك أن المؤرخين يقولون بأن أصنام العرب في الجاهلية ومنها: (ودّ، وسواع ويغوث ويعوق ونسر) كانت في أصلها تماثيل أريد بها تخليد ذكرى الأسلاف الصالحين، الذين يَنظرُ إليهم الأبناء بعين الاحترام والتبجيل، غير أنها تحولت بعد أجيال إلى آلهة تعبد من دون الله، وهو ما لم يكن في أصل إنشائها.
والأقنعة الفلسطينية المسروقة من قبل الأعداء الذين صُنعت لإرهابهم؛ لها بُعدٌ روحي مُتصل بذكرى الأسلاف، الأمر الذي لا يدركه الاحتلال، ولا يُحس به، ولأجل ذلك فإنه يعتقد أنه بوضعها في المتحف بعيداً عن أصحابها الحقيقيين يصنع شيئاً كبيراً لها، في الوقت الذي يُحيي الفلسطينينون ذكرى أسلافهم مُستنبطين روح أقنعتهم وباعثين الحياة فيها، عبر استمرار ارتدائها لحين تحقيق حُرية أرض الأجداد.
وبذلك، فإن كوفية المُقاوم وحطّته التي يُطوق بها رأسه، هي بقيّة من أقنعة أسلافنا الأُول بُناة الحضارة قبل 10 آلاف عام، وإننا مطمئنون بأن مَجد أجدادنا وإرثهم باقٍ، وإن غلبنا اليوم لصوصٌ بلا أقنعة وسرقوا -على حين ضعف منا- تاريخنا وأوطاننا وآثارنا.
اقرأ/ي أيضًا: