11-فبراير-2017

طفل يرعى أغنامًا قرب آثار رومانية في سبسطية بنابلس - Getty

قد لا يعلم الكثير من الزوار والتجار أن الأرض الواسعة التي تبدو مكبًا للنفايات وسط نابلس، هي الجزء الظاهر من ميدان سباق الخيل الروماني، الذي على الرغم من عدم اكتمال حفرياته، إلا أنه المعلم التاريخي الأكبر في الشرق الأوسط من هذا النوع، الذي اكتشف في العام 1987.

"للمواقع الأثرية أهمية بالغة في إثبات اللحظة التاريخية"، كما قال عبد الله كلبونة، خبير الآثار ومدير دائرة الآثار السابق، "فبدونها لا يمكن لنا أن ننطلق في إيضاح حقٍ، أو نفي أكاذيب، الأمر الذي يعطي للموقع الأثري قيمةً قانونيةً، في بعض الأحيان، هذا بالإضافة إلى ما تمتلكه من نواحٍ تتعلق بالهوية وتأكيد الذات الوطنية".

في نابلس تحول ميدان سباق الخيل الروماني، الذي يعد المعلم التاريخي الأكبر في الشرق الأوسط إلى مكبٍ للنفايات

فلسطينيًا يمكننا أن ندفع الكثير من الأكاذيب الإسرائيلية التي تُبنى على أحداثٍ تاريخيةٍ لا تمتلك دلائل أثرية، ومن هنا قررنا تسليط الضوء على حال المواقع الأثرية في نابلس، التي تعتبر عيِّنة "تمثيلية" لغيرها من المدن التي تحتوي كنوزًا يجري، بأقل تقدير، إهمالها، وصولاً للاعتداء عليها أو سرقتها.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط

يُحدد الخبير كلبونة لـ"ألترا فلسطين"، 67 موقعًا أثريًا إسلاميًا، و14 موقعًا رومانيًا، في مدينة نابلس وحدها. وسبق أن أعلنت الجريدة الرسمية عنها كمواقع أثريةٍ، الأمر الذي يرشحها لأن تكون على قائمة التراث العالمي، مثل تل بلاطة، مدينة شكيم الكنعانية، ثم المدينة الرومانية، والطائفة السامرية، وبلدة سبسطية.

محمود البيراوي مدير دائرة حماية آثار نابلس، أوضح لـ"ألترا فلسطين" آلية العمل في دائرته في حال أراد أي فلسطينيٍ إقامة أي بناء، إذ يتوجب عليه أن يقدم طلبًا مرفقًا بأوراق ملكيةٍ ومخططات مساحة، ليقوم بعدها قسم التفتيش في دائرة الحماية بزيارة الموقع، والذي يقدم تقريرًا يحدد إما الموافقة على التصريح بالبناء، أو تحويله لقسم الحفريات الاختبارية أو الرفض.

وحسب الإجراءات المتبعة، فإنه في حالة اكتشاف آثارٍ في أرضٍ، أو ضمن خربةٍ، أو موقعٍ أثريٍ مسجلٍ ومُرسَّم ومعلنٍ في الجريدة الرسمية، يُبلغ صاحب العلاقة بقرار حظر البناء وفق قانون الآثار المعمول به، ويُعوض ضمن إجراءاتٍ تُؤخذ بقرارٍ من مجلس الوزراء، أو تُستملك في حالة تعذر التعويض.

أما في حال لم تكن المنطقة المراد البناء عليها ضمن ما هو معلنٌ عنه، فإنه يجري تحويل الملف للدائرة العامة المختصة التي تشكل لجنةً من الوزارة وتزور المنطقة الأثرية وتحددها وترسما، وتثبتها على الخرائط كموقعٍ أثري، وفقًا لما أفادنا به البيراوي.

هذه المعلومات، ودقتها القانونية، أثارت تساؤلاتٍ حول الواقع الحالي "شديد السوء" لكثيرٍ من المواقع الأثرية، فميدان سباق الخيل، مثلاً، يعيش حالة إهمالٍ غير مسبوقةٍ لمكان بأهميته، وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة، فالموقع ليس مدرجًا ضمن "المواقع السرية".

وحسب الخبير كلبونة، فإن دائرة الآثار وضعت في عام 2000 خطةً بشأن ميدان سباق الخيل وتواصلت مع هيئة الأمم، التي أرسلت مدير عام التراث العالمي يرافقه مهندسٌ إيطاليٌ، ووضعت خطةً للكشف عن كل المدرج، وإنشاء أسواق سياحيةٍ في محيطه. هذا بالإضافة إلى تعويض أصحاب الأراضي، وتقديم مشروعٍ  يكلف ما يقارب 17 مليون دولار، لرئيس البلدية وقتها غسان الشكعة الذي تحمس لفكرة المشروع الذي وصف بأنه الأكبر، ربما، في الشرق الأوسط، وعمل على إيجاد الدعم لتنفيذه.

ميدان سباق الخيل تحول لمكب نفايات

كل هذه الجهود والترتيبات وُضعت في "الأدراج" جراء الاجتياح الإسرائيلي لنابلس عام 2002. ثم حين أُعيد طرح المشروع في 2008 وجُمع الأهالي وبعض أصحاب الأراضي للاتفاق معهم، رفض بعضهم المشروع وحتى الاستبدال، مما أعاده مرة أخرى "للأدراج" لفترة من المؤكد أنها ستطول وفق ما هو منظور. وما يزيد حالة الميدان سوءًا قيام بلدية نابلس بإنشاء سوقٍ للخضروات فوق أراضيه.

ميدان سباق الخيل تحول لمكب نفايات

واكتفت "المؤسسة الرسمية" ممثلة هنا بوزارة السياحة والآثار بهذا المقدار من الجهد والتزمت الصمت، فيما أدراجها مليئة بالمخططات والمشاريع، وبقي الموقع الهام على حاله مهملاً، ومهمَّشًا.

أُدخلت إلى أدراج القضاء وبلدية نابلس ملفاتٌ خاصةٌ بالتعديات على مواقع أثرية تاريخية هامة، وبقيت المواقع بلا قيمة

موقعٌ آخر يعاني كميدان سباق الخيل هو "المسرح الروماني" في منطقة "رأس العين" في الجبل الجنوبي للمدينة، الذي بني في القرن الثاني الميلادي، وهو نصف دائرةٍ وفيه مسرح أوركسترا، واحتوى على المعارض الثقافية وكان وثنيًا، ثم طُمرت معالمه مع الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: بالوثائق.. "مقام يوسف": عندما يعبث السياسي بالديني

ويبين كلبونة، أنه خلال الاحتلال البريطاني طلب أحد أبناء نابلس رخصةً لإنشاء محجرٍ لاقتلاع الحجارة في الموقع؛ ما يؤكد جهل الناس بكونه مسرحًا أثريًا. هذا المسرح اكتُشف عندما كان أحد سكان المنطقة يعمل على تجديد أنابيب الصرف الصحي في بيته. والمفارقة هنا، وفقًا لكلبونة، بأن بلدية نابلس وضعت خطةً بكلفة نصف مليون دينار لاستملاكه من مالكي الأرض، إلا أن المشروع لم يُنفذ ومازال حتى الآن على حالته السيئة، والرديئة بسبب الإهمال ورمي القمامة فيه، حسب قوله.

المسرح الروماني لا يجد من يرممه

مقبرة "الطائفة السامرية" التاريخية في منطقة رأس العين والمجاورة لحي السامريين القديم في حارة الياسمينة، تضم تربتها رفات الكثير من كهنة الطائفة وأبنائها أيضًا. غير أنها تتعرض لتعدياتٍ من قبل جيرانها الذين اقتطعوا منها مواقع قاموا بالبناء عليها.

هذه المقبرة اختلف خبراء الآثار عليها في نابلس، فبينما نفى البعض كونها تاريخية، أكد آخرون هذا، إلا أن الكل أجمع على أنه لم تصل لهم أي شكاوى تتعلق بها، كما أكد لنا المسؤولون في السياحة والآثار، والشرطة السياحية، وهو ما أكده إسحق السامري سكرتير لجنة الطائفة السامرية، الذي برر عدم تقديم شكاوى على الانتهاكات الأمر بخوف أبناء الطائفة وتقصيرهم أيضًا.

تخاف الطائفة السامرية من تقديم شكاوى على تحويل مقبرتها لمكب نفايات

وتحدث السامري لـ"ألترا فلسطين" عن اتفاقٍ تم بين الطائفة وبلدية نابلس حين طلبت البلدية اقتطاع جزءٍ من المقبرة لإنشاء شارعٍ مقابل إنشاء سياجٍ حولها، لحفظها وحمايتها من الاعتداءات، مبينًا، أن البلدية وبعد إنشاء الشارع المذكور لم تلتزم بإنشائها للسياج.

سيارة قديمة ملقاة فوق المقبرة السامرية

وعلى ما يبدو فإن المسرح الروماني، ومقبرة الطائفة السامرية هما أيضًا أُدخلا إلى الأدراج ذاتها التي سبقهم إليها ميدان سباق الخيل، ويحتاجان أيضًا إلى يدٍ نافذةٍ تخرجهما منها.

ويضاف إلى كل ما سبق ما أصبح يُعرف بقضية "البلاط السلطاني"، وهو بلاط البيوت النابلسية القديمة، الذي يمتاز بأشكاله الجميلة والمزخرفة، وهو نادرٌ لم تعد مصانع البلاط تصنعه.

يقول كلبونة، إن بعض أهالي المدينة "بسبب الجهل وقلة الوعي بأهمية الحجارة القديمة والتراثية" أصبحوا يقتلعون حجارة منازلهم وبلاطهم وساحاتهم ويبيعونها، وكان هناك من يشتريها منهم ويبيعها لمجهولين.

بلاط سلطاني

ويبين كلبونة، أنه حين علمت الشرطة الفلسطينية بهذه "الجريمة" صادرت البلاط وتحفظت عليه، وتم تحويل القضية للقضاء، مضيفًا، "لا أدري ماذا حصل بعد ذلك. بقيت الحجارة لمدة سنواتٍ ولا أعلم أين اختفت بعد ذلك"، وهذا ما يوافقه عليه البيراوي أيضًا، عند سؤالنا له عن هذه القضية.

قضية البلاط السلطاني، هي أيضًا، لازالت محفوظةً في "الأدراج"، وتنتظر من يبحث عن الذين وقفوا خلف إهدارها، كما تنتظر إعادة فتح الملف الخاص بالقضية في المحاكم الفلسطينية لما له من أهمية في حفظ تراث المدينة.

"نحن نُطبق قانون الآثار الأردني رقم 51 للعام 1966، وهو قانونٌ غير رادعٍ. فسارق الآثار توقع عليه غرامةٌ ماليةٌ بمبلغ 20 دينارًا أو حبس شهرين، أو كليهما. وأحيانا إذا تم الحكم عليه بأقل من 90 يومًا يدفع غرامة ويخرج من السجن. وحتى حين تم تعديل قانون الجزاء والعقوبات وصلت أحيانًا الغرامة إلى 200 أو 300 دينارٍ أردني". هذا ما أكده لنا محمود البيراوي، فيما أشار كلبونة إلى أنه عند إعداد مسودة القانون الفلسطيني رُفعت فيه العقوبات لتصبح رادعة، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ.

قانون الآثار المعمول به فلسطينيًا يعاقب السارق بغرامة مالية قيمتها 20 دينارًا أو الحبس الشهرين، ويمكن أن يدفع السارق غرامة وينال حريته

وأشار البيراوي إلى قضية "خربة فقاس"، إذ وردت معلوماتٌ منذ حوالي ستة أشهرٍ من عصيره القبلية قضاء نابلس، بأن أحد السكان قام بتجريف خربةٍ في أرضه وجرف آثارًا، ثم نُقل جزءٌ من هذه الحجارة إلى إسرائيل، مبينًا، أن الشخص أُحيل إلى القضاء، لكن لم تنتهٍ القضية في المحكمة حتى اللحظة.

اقرأ/ي أيضًا: "النايس جاي" تغزو القدس "ببلاش" وبغطاء إسرائيلي

ويبين البيراوي، أن إحدى آليات الحفاظ على الآثار هي إيجاد متحف، وفق مواصفاتٍ علميةٍ ومهنيةٍ توضع فيه المكتشفات التي يتم العثور عليها، لكن هذا غير متوفر، إذ يوجد متحف في سبسطية، وآخر في تل بلاطة، لكن لا يوجد متحفٌ للمدينة بشكل كامل، "بسبب عدم توفر مبنى لإقامته"، حسب قوله.

ورفضت وزارة التربية والتعليم مقترحًا سابقًا بإقامة متحفٍ في مبناها بمدينة نابلس، بعد أن وافقت (UNDP) عليه كجهةٍ مانحةٍ. وحسب البيراوي، فإنه يجري حاليًا، نقل القطع الأثرية المكتشفة إلى دائرة المخازن والتسجيل في مدينة رام الله، لتعطى رقمًا وطنيًا بعد تحديد مواصفاتها وأهميتها، و بعض هذه القطع يبقى في المدينة.

ووقعت وزارة الآثار اتفاقيات إعارةٍ مع شخصياتٍ فلسطينية، أعيرت على إثرها قطعٌ أثريةٌ هامةٌ لمتاحف خاصة يملك أحدها منيب المصري في "متحف بير الحمام"، الذي لا يسمح الدخول إليه إلا بعد استئذان المصري، كون المتحف يقع في حدود قصره، إضافةً للمتحف السامري الذي يملكه كاهنٌ من الطائفة السامرية، ويُلزم الراغبون بزيارته بدفع "دخولية".

أعارت وزارة الآثار آثارًا هامة لمتحفين خاصين، أحدهما لا يمكن الدخول له إلا بإذن صاحبه، والآخر يُلزم الراغب بزيارته بدفع مدخولية

وبين عامي 1998 و2001، ضمت بلدية نابلس قسمًا للسياحة ترأسه الباحث إبراهيم الفني، لكنه أُغلق بسبب الانتفاضة، بعدما قدم دورًا هامًا في "التنقيب"، والإرشاد السياحي، إضافةً لإصدار عددٍ من الأبحاث والكتب المتعلقة بتاريخ المدينة، بحسب "تامر فهد" أحد الموظفين في القسم.

ولا تعد المواقع الأثرية المذكورة هنا وحدها التي تعاني إهمالاً وتعدياتٍ متعددة، على الرغم من أن هذه المواقع يمكن بعد تنميتها الاستفادة منها اقتصاديًا وثقافيًا، حسب مختصين، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بتخليصها من "متلازمة الأدراج" التي تقضي على تراثنا الإنساني، من خلال إخراج ملفاتها من الأدراج التي أثقلتها بمقدار الأتربة التي غطتها طيلة السنوات الماضية.

ويشير "ألترا فلسطين" إلى أن العديد من الجهات الرسمية رفضت الإجابة على تساؤلاتنا في هذه القضية، بل إن بعضها حذرنا من التطرق لهذا الموضوع، "بسبب تعقيداته الكثيرة"، حسب قول هذه الجهات.

اقرأ/ي أيضًا: 

شركات "خاصة" لاستغلال الفتيات في الضفة

منشطاتٌ جنسيةٌ قاتلةٌ تباع سرًا في الضفة

"حسبة" رام الله.. هل هي مكبّ لخضار وفواكه إسرائيل؟