قبل قرون كثيرة، قبل أن يُكتب أوّل نصٍ مقدّس، في قرية ما من قرى فلسطين القديمة، كانت امرأة كنعانية ما تُعدُّ زيت الزيتون في طبق لتناول فطور جديد، وهي لا تدري أنها تنشئ تقليدًا سيجوب العالم ويرتبط بطريقة عجيبة بمآسي التاريخ، إلى يوم الناس هذا.
لم تزل عمتي، كنعانية الوجه والتقاسيم واللكنة، في قرية ما من قرى فلسطين، تعد زيت الزيتون لفطور آخر وهي تفكِّر في موسم القطف الذي اقترب، فيما تصغي إلى خبر جديد في التلفاز، عن "مسيح" آخر في جنين أو نابلس
تمر القرون، ويستمع الناس في مكان ما من تلال فلسطين إلى رجل دين يقرأ مما سيعرف لاحقًا بـ"العهد القديم" قصة تنصيب الملوك والأنبياء والكهنة من "بني إسرائيل" عبر طقس "المسح"، أي مسح يدي وصدر ورأس الشخص بزيت الزيتون المقدّس، دلالة على تكريسه لله. تمر السنين ويتناقل الناس حكاية "مسح" سليمان ملكًا خلفًا لداود من قبل صموئيل النبي، ويرتبط طقس المسح بالهيبة والجلالة والقدسية المرافقة للسلطة، في التقليد العبري.
تمر القرون ويتعاقب الملوك من كل لون ولسان ودين على تلال الزيتون وقراها، وتولد تحت اضطهاد المحتلين وجيوش الأباطرة صورة "المخلّص"، الذي سيأتي ليخلِّص الشعب من طغاته، وسيكون "مسيحًا" أي ممسوحًا بالزيت، لأنه سيكون ملكًا وكاهنًا ونبيًا. يطول الانتظار، ويتحوّل التقليد العبري، الذي لم يكن سوى نسخة خاصة من التقاليد الكنعانية القديمة، إلى طائفة محصورة في هذه التلال، غارقة بين ثقافات وتقاليد كثيرة أخرى. كان يمكن أن ينتهي الأمر بهذه الطائفة، التي صارت تعرف باليهودية، بكل تقاليدها ونصوصها المقدسة وحكاياتها، ككل حضارات وشعوب فلسطين القديمة: في بواطن كتب الأنثروبولوجيا على رفوف يعلوها الغبار في العالم الحديث، لكن، شاء القدر أن يكون غير ذلك.
حدث أنه وبعد قرابة 70 عامًا من احتلال الرومان لفلسطين، لمع نجم مبشِّر جليلي شاب، نجار ابن نجار، بلا حسب ولا نسب ملكي معروف له في زمانه، ليس من طبقة رجال الدين ولا الكتبة، يبشِّر بملكوت ليس من هذا العالم، يدخله أولًا البرص والفقراء والمتواضعون، ولا يدخله المتكبرون إلا كما يدخل الجمل من عين الإبرة. ذاع صيت الجليلي الشاب وراح يتبعه التعساء والبرص والجياع بالآلاف، حتى أثار حفيظة كل سلطة مدنية ودينية في زمانه، وانتهى الأمر به على صلبان القيصر (أو هكذا شبه لهم، أو قائمًا من بين الأموات، أو كما شئتم).
بعد فترة وجيزة، بدأ أتباعه يعلنون أنه هو المسيح المنتظر، وينتشرون في أنحاء حوض المتوسط ليبشِّروا شعوبًا لم يسمع معظم أهلها أصلًا بوجود تقليد "المسح بالزيت" ولا بانتظار مسيح ما، وبطريقة ما ينجحون. لا في نشر تعاليم المبشِّر الجليلي فحسب، بل بتصدير تقليد "المسح بالزيت" ذاته على مستوى عالمي، حتى صاروا يُعرفون باسم "المسح"، إذ أطلق الناس عليهم، في كل مكان، اسم "مسيحيين". وبقدرة قادر (حرفيًا أو مجازيًا، كما شئتم أيضًا)، تحوّل ارتباط تقليد "المسح بالزيت" من جلالة وهيبة وقدسية السلطة والملوك، إلى قدسيّة الفقر والبساطة وآلام المعذبين على صلبان القياصرة في كل مكان.
تحوّل ارتباط تقليد "المسح بالزيت" من جلالة وهيبة وقدسية السلطة والملوك، إلى قدسيّة الفقر والبساطة وآلام المعذبين على صلبان القياصرة في كل مكان
تمر القرون وتتحول "المسيحية" إلى الدين الرسمي للامبراطورية التي حكمت على "مسيحها" بالإعدام صلبًا، ثم تنهار الامبراطورية، وتفقس من خرابها ممالك أوروبية تحاول كل منها أن "تتمسح" بتقاليد روما القديمة ومجدها، وتنسب نفسها للمسيحية كمصدر شرعية. فيبدأ الملوك بإرساء تقاليد جديدة تحاول استنساخ "العهد القديم"، بأن يأتوا بالأساقفة والباباوات ليمسحوهم بالزيت قبل أن يضعوا على رؤوسهم تيجانًا مزخرفة بالذهب والمجوهرات؛ من "كلوفيس"ملك فرنسا الأول، إلى"شارلمان" مؤسس المحاولة الفاشلة لبعث روما من قبرها "الامبراطورية الرومانية المقدسة"، مرورًا بفيرناندو وإيزابيل، مؤسسي إسبانيا محاكم التفتيش، حتى نابليون، الذي خطف التاج من يد البابا ليتوِّج نفسه بنفسه، كي يذل البابوية ومعها تقاليد ممالك أوروبا المعادية لفرنسا الثورة.
تمر القرون أيضًا وتفقس من عفن أسرّة الممالك الأوروبية أولى بوادر الرأسمالية الحديثة، والجوع للذهب، ولثروات البلاد الأخرى، وحركة الاستعمار، وتتلطخ أيادي الملوك الأوروبيين "الممسوحين" بدماء كل شعوب الأرض، بدءًا بشعوبهم هم، وليس انتهاء بالشعوب الأصلية في البلاد التي أحرقوها وعلّقوا أهلها على صلبان جديدة، باسم المسيح المصلوب، دون أن يشعروا للحظة بقبح المفارقة.
تمر القرون دون توقّف، ويأتي ملك جديد ليرث عرش سلالة طويلة من السّفاحين في جزيرة انكلترا، اسمه جورج الخامس، ويُمسح أيضًا، على شاكلة ملوك العهد القديم، بزيت الزيتون المقدّس. وباسمه، وباسم "حكومة جلالته"، يصدر وزير خارجيته الوعد الشهير بإعطاء فلسطين لعصابة من البرجوازيين البيض، المقتنعين بأنهم أحفاد داود وسليمان، على شكل رسالة إلى "عزيزي اللورد روتشيلد".
تمر السنين مرة أخرى، وتُمسح فتاة عشرينية اسمها إليزابيث، بالزيت المقدّس كما يقتضي التقليد، ملكة على انكلترا، في الوقت نفسه الذي تقوم به الجرافات في قرى فلسطين المهجّرة باقتلاع أشجار الزيتون المنحدرة من تلك الشجرة الأولى، التي أخذ منها أول زيت، ليُمسح به أول نبي كنعاني
تمر السنين مرة أخرى، وتُمسح فتاة عشرينية اسمها إليزابيث، بالزيت المقدّس كما يقتضي التقليد، ملكة على انكلترا، في الوقت نفسه الذي تقوم به الجرافات في قرى فلسطين المهجّرة باقتلاع أشجار الزيتون المنحدرة من تلك الشجرة الأولى، التي أخذ منها أول زيت، ليُمسح به أول نبي كنعاني في العهد القديم. تمر السنين ولا تتوقف، ويبدو أن الملكة لا تموت، ولا أن هدير الجرافات يتوقّف، ولا أن الانكليز سيدركون يومًا لماذا زيت الزيتون، وليس غيره، حظي بهذه الفرصة الفريدة للخلود، وللقدسيّة.
لم تزل السنين تمر، وفي مكان ما في كنيسة ويستمنستر، في إحدى ضواحي لندن يهم كاهن ما (بعد تناول فطوره من البيض المقلي بالزبدة الاسكتلندية) بإعداد "الزيت المقدس" الذي سيُمسح به عجوز سبعيني ملكًا، بلا سلطة ولا سبب حقيقي متبقٍ لوجوده، على جزيرة انكلترا بعد بضعة أشهر.
وفي أثناء ذلك، لم تزل عمتي، كنعانية الوجه والتقاسيم واللكنة، في قرية ما من قرى فلسطين، تعد زيت الزيتون لفطور آخر وهي تفكِّر في موسم القطف الذي اقترب، فيما تصغي إلى خبر جديد في التلفاز، عن "مسيح" آخر في جنين أو نابلس، يرتفع ممسوحًا بدمه على صلبان قيصر، كما لو أن القرون لم تمر.