30-مارس-2022

طبخة المجدّرة (صورة مرام سالم)


المجدّرة، طبقٌ تراثيّ من الأكثر شهرةً وحضورًا في بلاد الشام والعراق، سهلُ الإعداد، وحضوره على الموائد غيرُ مُكلف، مكوِّنه الأساسي العدس والبرغل أو الرّز، لذا كان يُقال إنّ ربّات البيوت يطبخنها عند انشغالهن وضيق وقتهن.

 من غير المقبول أن يشتكي أحدهم من طبخ المجدّرة بشكل دائم: "شو هو كل يوم مجدرة؟!"، وترُدّ عليه الأمهات ف المثل الشعبي: "اللي ما بحب المجدّرة  بعيش عيشة مكدّرة" 

ولا يُعرف بالضبط متى اهتدى الناس لطبخ طبق "المجدّرة"، غير أن أقدم نصٍّ مكتوب وصلنا كان في كتاب البغدادي سنة 1226، وقد وصف مكوّناتها وطريقة طبخها التي نعرفها حتى اليوم، وتكاد المجدرة تكون من الأطباق القليلة التي حافظت على اسمها ومكوّناتها الدقيقة طوال السنوات الماضية، ما يجلعنا نعتقد بأنّها وبجدارة من الأطباق القديمة في المطبخ المشرقيّ. 

من المطبخ العباسي

المُثير في حكاية هذا الطبق أن بعض مناطق بلاد الشام كانت تُسميه قديمًا بـ"الطبيخ"، تمييزًا لغيره من الأطباق، ولعلّ مرد ذلك أنه من أوائل ما طُبخ عندهم على النار، الأمر الذي يؤكد مذهبنا الذي ندّعي فيه قِدم طبق المُجدرة لأنها مُرتبطة بما تنتج المنطقة من غِلال وخيرات الأرض، وتحديدًا القمح والعدس.

كما أن لطبق "المجدّرة" أسماء أخرى مثل: "المدردرة"، وبعضهم يُميّز بين المجدرة والمدردرة بأن الأولى عدسها نصف بنصف، وأما الثانية فعدسها يعدل ثُلث الطبق، وآخرون يقولون عن ذات الطبق: "برغل بعدس" و"مجدرة برز".

أما "المجدرة" في مصر فهي من العدس والرز لا من البرغل، ربما لتوفر الرز عندهم دون البرغل، ويسمى الطبق المصري "الكوشري"، وفيه إضافات لاحقة ونكهة، تُميّزه عن طبق بلاد الشام والعراق.

حكاية عاشقان

"البرغل صديق وفيٌّ للحمص، ويُحب العدس، ويبدعان معًا أكلة شعبية اسمها المجدرة، ورد ذكرها في كتب الطبيخ العربية، إلا أنها كانت من عدس وأرز. ومن المعتاد أن يُنثر عليها الكثير من البصل المُحمّر بزيت الزيتون، وأن يؤكل معها مخلل اللفت أو سلطة اللبن بالخيار"، هذا ما قاله صاحب كتاب "مطبخ زرياب" فاروق مردم بك عن "المجدرة"، ولأن الحُب من الله كما يُقال حتى في انجذاب الأشياء لبعضها، فقد صحّت هذه الثُنائية بين العدس والبرغل حتى غلبت على مكوِّنات الطبق في كثير من الأرياف في عموم بلاد الشام، وفوق ذلك زعموا في المثل الشعبي مدحًا لهذان العاشقان: "العدس لولو والبرغل مرجان".

 المجدرة تُعتبر درجة أعلى من طبخة العدس، لوجود شريك للعدس في هذا الطبق وهو البرغل أو الرز 

وتجنُّبًا للحديث عن الخلاف القديم الجديد في مكوّن الطبق الأساسي المرافق للعدس: رُز أم برغل، نقول بأن الطبق قديمًا عُرف بهما معًا، فالرز والبرغل قديمان في بلادنا كما تؤكد الشواهد التاريخية والمَراجع المكتوبة، بل إن أقدم نص مكتوب يذكر المجدّرة بالرز لا البُرغل، فقد ذكر البغدادي في كتاب الطبيخ سنة 1226 بأن الطبق يتكون من نصف الكمية من العدس ونصفها الآخر الرز، وذكر بأن الرز يُصبغ بالزعفران بعد أن يُغسل عدة مرات، ولا يتم تحريكه في القِدر.

اقرأ/ي أيضًا: المسخن: تكامل خيرات البيت الفلاحي

والمعروف بأن القمح وَفَريكَهُ وَجَريشَهُ من أقدم ما استخدم المشرقيّ في طبخه وطعامه، ولذا لا نخطئ إذا قُلنا بأن البرغل مع العدس أقدم في هذا الطبق، وإن كان الرز مؤخرًا قد احتلّ مكانة البرغل حتى قيل: "العز للرز والبرغل شنق حاله". وليس البرغل وحده من فقد مكانته لصالح الرز وإنما طال ذلك أيضًا المفتول والفريك والجريش والرشوف والسليق، فصار الرز دائم الحضور على موائدنا مُرافقًا لأغلب الأطباق الشعبية، حتى صح فيه القول: "مثل صحن الرّز قاعد بالنص".

 مؤخرًا بدأت مُجدّرة البُرغل تستعيد حضورها في المطبخ الفلسطيني، وصار دافع العافية والصحة يُقدّمها على الرز 

ومؤخرًا بدأت مُجدّرة البُرغل تستعيد حضورها في المطبخ الفلسطيني، وصار دافع العافية والصحة يُقدّمها على الرز، لما في البرغل من فائدة، وربما يجدُ أنصار البرغل ما يُعزز مذهبهم في المثل القائل: "مجدرة البرغل ما بتلتقى إلا ببيوت الأعيان".

طبق الطبقات

المجدرة من الأكلات البسيطة في مكوناتها الغنية بفوائدها، وقد وجاء في وصفها في كتاب "الغذاء لا الدواء": "قد لا يعلم مُحبو هذه الأكلة أنهم إنما يتناولون طعامًا ثمينًا جدًا في قائمة الأطعمة المغذية، فالعدس يكاد يكون مُعادلًا للحم، من حيث القيمة الغذائية، وإذا شئنا الدِّقة قلنا: إن العدس يفوق اللحم في بعض النواحي". 

 في المثل الشعبيّ إشارة لفوائد المجدرة حتى قيل عنها: "المجدرة مسامير الركب"

ولأنّه طبق دائم الطبخ في البيوت، بحكم توفر العدس والبرغل، لم تكن الأم بحاجة للتفكير في نوع الطبخة، وعلى رأي المثل: "ميسّرة اللي عندو برغل يطبخ مجدرة"، ومن غير المقبول أن يشتكي أحدهم من طبخها الدائم، وفي المثل الشعبيّ تساؤل "شو هو كل يوم مجدرة؟!"، ترُدّ عليه الأمهات: "اللي ما بحب المجدّرة  بعيش عيشة مكدّرة".

ومن هذا الباب لا يُلام بعضهم إذا عاب كَثرة طبخها، كما فعل الشاعر الزيني في (معارضاته):

وا لوعتي وا حرقتي .. من طبختي المُجدرة

القلب منها تفطّرا .. فاصرفها عني مع الدره

ورغم أهمّيّة الطبق وشهرته، وتوفّره في بيوت الأغنياء قبل الفقراء، إلا أنه يَبقى طبقًا مُتواضعًا، وَيُعبّرُ عن ذلك في المثل الشعبي: "اللي معه مصاري برش ع المجدّرة سُكّر" أو قولهم: "وقت الكباب سكروا الباب، ووقت المجدرة نادوا للمعترة"، في إشارة واضحة لتصنيف الطبق مُجتمعيًا، غير أن المجدرة تُعتبر درجة أعلى من طبخة العدس، لوجود شريك للعدس في هذا الطبق وهو البرغل أو الرز.

يا مجدرة باللبن.. وين المعالق وين؟

المجدرة طبق يُعدّ بإضافة البرغل الخشن أو الرز لكمية مُساوية من العدس البني على الغالب، ذلك أن نوع العدس يلعب دورًا في المذاق واللون، وهي تؤكل في حضرة اللبن أو السلطة، وبعض المُقبّلات مما يتوفر في البيت.

ولبعضهم في إعداد ما يُؤكل معها طرقٌ وفنون، لكنّ طُهاة المُجدّرة بعد قَليِهم للبصل في زيت الزيتون أو بالسمنة البلدية لدرجة أن يُصبح لون البصل ذهبيًا، أو ما قبل الاحتراق بقليل، يختلفون في وقت إضافته للطنجرة، بعضهم يقول: يُضاف البصل للمكونات قبل أن تنزل الطنجرة عن النار، ليعطيها لونًا بُنيًا مُميزًا، وآخرون يقولون: إنما يكون البصل في صَحنٍ مُنفرد بجانب الطنجرة ولك أن تضع الكمية التي تُريد على وجه الطبخة بعد سكبها. 

المُجدرة طبيخ القدر

قيل الكثير حول سبب تسمية المجدرة بهذا الاسم، وإن كانت كُلها تسميات واهية واهمة، ومن ذلك زعمهم بأنها أخذت اسمها من قولهم: "من جدّ يَره"، بمعنى من جد في طلب الطيبات وجدها، ومثله في التوهم: أنها اسم مفعول من الجدار وكأن مفعولها في الجسم كالجدار الذي يصد جيوش الجوع. وأعجب منه قولهم: بأنها سُمّيت تشبيهًا بالجدري، وهو الداء الذي يُصيب الإنسان فتكون بثوره كحبّات العدس على الوجه الأبيض، وشطح آخرون حين جعلوها من الجدارة، فهي لأهميتها وفائدتها ومكانتها المرموقة جديرة بالطبخ. وكل ذلك لا أصل له. 

وأجدني ميّالًا لرأي ذكره العلّامة محمد خير الدين الأسدي في أصل تسميتها، وهو من اشتقاق شائع ومعروف في بلادنا، إذ يلفظ الفلاحون والبدو في مناطق كثيرة من بلاد الشام القاف جيمًا مُخففة، فيقولون: (الجَريَة) بدل القرية، و(رفيجي) بدل رفيقي، و(المَذيجة) بدل المَذيقة ونحوه، وعلى هذا فقد عَنوا بالمجدرة الأكلة المطبوخة في (الجدر) أي: القدر.

وهو قول يدعمه اسمها القديم في الأرياف، إذ تُسمى دون سِواها من الأطباق بـ (الطبيخ)، لأنها الطبخة السائدة عندهم لتوفّر موادها الأولى، ولرخصها، وبهذا تكون المُجدرة تحريف لـ (المقدرة)، يُريدون بها ما يطبخ في القدر كثيرًا.

وفي خلاصة المُقابلات التي أجريتها مع السّيدات حول طبخها، وجدت أنهن كُن يطبخنها داخل قدر النحاس، أو طوس الفخار، وتنضج على مرجل النار أو داخل الطابون أو في فرن الحطب، وذلك قبل أن نعرف الطهي على الغاز. 

المجدرة مغندرة

التغندر من التأنّق والبتختر والتباهي، وهي صفة يقولها المثل الشعبي عن طبخة المجدرة، وجدير بهذا الطبق التغندُر لأنه دائم الطبخ في البيوت، ولذا تحرص النساء على تأكيد غندرة المُجدرة. ومن ذلك قولهن في المهاهاة خلال الأعراس:

- اوييها طبخنا مجدرة، اوييها مثل عروستنا مغندرة، اويييها وطلعت مدردرة، اوييها واللي ما يحبك يلزق بقاع  الطنجرة.

- اوييها طبخنا مجدّرة، اوييها وأكلناها بالمعلقة، اوييها واللي ما يصلي ع النبي، تصبح أمه مطلقة.

- اوييها  ﻃﺒﺨﻨﺎ ﻣﺠﺪﺭﺓ، اوييها ﻭﺟﻠﻠﻨﺎﻫﺎ ﺑﺎﻟﺒﺼﻞ، اوييها ﻭﺍﻟﻠﻲ ما فرح لينا، اوييها ﺍن شاء اﻟﻠﻪ عَ بيته ﻣﺎ ﺑﻴﺼﻞ. 

وفي المخيّمات الفلسطينية في سوريا كان يغني الأطفال ويرددون أغنية مطلعها:

مجدّرة أكل الفدائية مجدّرة .. اللي بحب الجيش يرجع لوره


اقرأ/ي أيضًا:

ثقافة الطعام.. معركتنا الخاسرة

كفتة الفلسطينيين.. داود باشا العرب!

الفول.. باكورة خير الشتاء ورمز الحياة