أعاد تهديد رئيس الموساد للمدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية إلى الأذهان ما يسمى في عالم الاستخبارات الإسرائيلية قواعد "مهنة الضعف البشري". وكشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية في تحقيق صحفي عن الأساليب التي استخدمها رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" السابق، يوسي كوهين، في تهديد المدعية العامة السابقة لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي، فاتو بنسودا، بهدف إيقاف التحقيقات الجارية ضد "إسرائيل".
واختارت الصحفية الاستقصائيّة الإسرائيليّة، إيلانا ديان، استخدام تعبير "الشاباك والموساد قطاع خاص في خدمة من يدفع أكثر"، وذلك للتمهيد في حديثها عن شركة استخباريّة إسرائيلية دوليّة هي شركة "بلاك كيوب"، يملكها ويعمل بها خريجون من جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية "الموساد"، ومن الوحدات الأكثر سريّة في جيش الاحتلال.
بلاك كيوب: الخدمات التي تقدمها الشركة قد تكون مُظلمة وخطيرة أكثر بكثير مما بالإمكان تخيله
وكان الرئيس الفخري لتلك الشركة رئيسًا لجهاز "الموساد" مائير دغان، وتضم قائمة المجلس الاستشاري لشركة "بلاك كيوب" أسماءً مثل الرئيس السابق لـ"الموساد" إفرايم هليفي، والقائد العام السابق للشرطة يوحنان دنينو، واللواء احتياط غيورا آيلاند، وهو الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي.
وبحسب ديان فإن الخدمات التي تقدمها الشركة "قد تكون مُظلمة وخطيرة أكثر بكثير مما بالإمكان تخيله"، حيث استهدفت عمليات الشركة، الناشط الحقوقي البريطاني دانيال باليت، الذي أعدّ أبحاثًا حول الكونغو وعلاقة زعيمها بالملياردير الإسرائيلي دان غلتر، الذي جمع ثروته بفضل تجارته بالألماس بالتعاون مع رئيس الكونغو السابق لوران كابيلا.
ولم يكن الوزراء والمسؤولون والصحفيون والقضاة في "إسرائيل" محصّنين من عمليات شركة "بلاك كيوب"، إذ استخدمت الشركة "فتاة إغراء" لاستدراج أحد الصحافيين، ودفعه لكشف معلومات حول عمله لصالح شركة كبرى.
كما بحثت عن علاقة خارج نطاق الزوجية لقاضية كانت تنظر في قضية مرفوعة ضد ملياردير إسرائيلي، ونفذوا عملية استخبارية لإسقاط رئيس الحكومة وزير المالية السابق يائير لابيد وعدد من كبار موظفيه، عشية اتخاذهم قرارًا يُلحق الأذى بمصالح ملياردير إسرائيلي.
ضابط يعمل في تجنيد الجواسيس وتحييد الخصوم: "إنها مهنة قذرة، إنها مهنة تتعلق بالضعف البشري، ويجب امتلاك قدرة على الإغراء والإغواء، والكذب، والتضليل".
ولخص أحد ضباط الاستخبارات العسكري، الذي يعتمد عمله على تجنيد الجواسيس أو تحييد الخصوم بالابتزاز، وظيفته في حديث مع القناة العاشرة الإسرائيلية قبل سنوات طويلة، بالقول:"إنها مهنة قذرة، إنها مهنة تتعلق بالضعف البشري، ويجب امتلاك قدرة على الإغراء والإغواء، والكذب، والتضليل".
وفي عام 2020 صدر في "إسرائيل"، كتابٌ مترجمٌ من اللغة الإنجليزية إلى العبرية، يحمل عنوان "هربون: الحرب السريّة ضد أموال الإرهاب"، يتناول الحرب التي أطلقتها "إسرائيل" على قنوات تمويل الفصائل الفلسطينية، بعد تصاعد الهجمات خلال الانتفاضة الثانية.
وعمل على الكتاب المؤلفان؛ المحامية الإسرائيلية الأمريكية نيتسانا ليتنر، التي تترأس جمعية "شورات هدين" المتخصصة بملاحقة الفلسطينيين أمام القضاء الإسرائيلي وفي أوروبا وأمريكا، والكاتب شموائيل كاتس الذي ألّف عدة كتب كانت من بين الأكثر مبيعًا في أمريكا، وتناول الكتاب قصة مدير بنك في رام الله، يتم الرمز له باسم "عدنان"، قرر جهاز "الشاباك" دفعه للتعاون معه لتقديم معلومات حول شخصيات قيادية في فصائل فلسطينية لديها حسابات في البنك الذي يديره، ويؤكد الكتاب أنّ "الشاباك" كلَّف اثنين من ضباطه بمهمة إقناع "عدنان" بالتعاون معه، وذلك من خلال الاتصال معه من رقم الهاتف الخاص بعشيقته ولا يعرفه أحد سواه، حيث تم استدعاؤه إلى لقاء في "إسرائيل"، ومن أجل طمأنته تم عقد اللقاء في أحد المطاعم.
ويُبين الكتاب، أن "عدنان" تم ابتزازه من خلال ضابطين مارسا معه لعبة الشرطي اللطيف والشرطي السيء، وفي النهاية اضطر الرجل الذي يعيش برفاهية ويسافر باستمرار إلى أوروبا مع أطفاله إلى القبول بالابتزاز، "بعد أن وجد نفسه بين خيارين، أحدهما أن يخسر الثراء في حال رفض التعاون، أو أن يفقد حياته في حال اكتشفته حركة حماس"، على حد قول مؤلفي الكتاب.
تقوم وحدة 8200 ببرسم ملامح شخصية للمستهدفين عبر تحليل المعلومات التي تملكها
وفيما يتعلق بالفلسطينيين في إطار "تشخيص نقاط الضعف البشري"، فإن وحدة 8200 تقوم بتسجيل كافة الاتصالات، كما بيّن عاموس، وهو ضباط سابق في الوحدة، في تحقيق نشرته صحيفة العربي الجديد، وقال: "يتم تسجيل كل المكالمات التي يجريها الفلسطينيون، وبإمكان منظومة الفلترة تصنيف المكالمات والمحادثات عبر الإنترنت بناء على فحواها، سواء تلك التي تشير لخطر أمني وشيك أو ضعف بشري مثل قصة خيانة زوجية، وعلاقات حميمبة خارج نطاق الزوجية، أو علاقات عاطفية أو جنسية بين مراهقين أو فساد شخصية مسؤولة أو شخص يعاني من ضائقة ما". وطبقًا لما أكده الضابط الإسرائيلي فإنه يتم البحث عن أشخاص لتجنيدهم كعملاء بشكل روتيني للاستخبارات.
وأضاف عاموس: "الخطوة التالية لتسجيل "محادثة ضعف بشري" هي تحويلها لضباط يجيدون العربية ويفهمون الشخصية الفلسطينية، ومهمتهم إيجاد الشخص الذي من المحتمل أن يعمل جاسوسًا، وإذا كان أحد أطراف المحادثة يقع في نطاق أفضلية التجنيد يتم تحليل المكالمة وتحويل الملف لوحدة 504 المتخصصة بتجنيد وتشغيل الجواسيس العرب والفلسطينيين في (أمان)". وثمة عدة اعتبارات تضع الشخص في دائرة أفضلية التجنيد، منها أن تكون ناشطًا في أحد الفصائل أو مسؤولًا سياسيًا أو أمنيًا أو لكونك من الدوائر القريبة من "شخص مستهدف" مثل الأقارب وزملاء العمل والجيران، بحسب ما أكد عاموس.
ويمكن أن تستخدم المحادثات المسجلة، بعد سنوات من تسجيلها، لأغراض الحصول على معلومات عادية جدًا، وتوليد انطباع لدى الهدف أنه كان تحت مراقبة مشددة، ولتشكيكه في محيطه ودفعه للانهيار إذا كان خاضعًا للاستجواب.
ويؤكد عاموس أن وحدته تقوم، بناء على طلب وحدات أخرى من الاستخبارات، برسم ملامح شخصية للمستهدفين عبر تحليل المعلومات التي تملكها الوحدة، ويفسّر الدكتور عباس أهمية الخطوة بأن الصفات والسمات التي يمتاز بها الشخص هي أحد المداخل المهمة جدًا لعملية التجنيد.
الطفرة في استخدام وسائل الاتصال الإلكترونية لدى الفلسطينيين ضاعفت قدرة وحدة 8200، على جمع المعلومات التي تُمكنها من تحديد هؤلاء الأشخاص
ويتولى عملية رسم الملامح الشخصية، بحسب عاموس، ضباط يتخصصون في علم النفس والثقافة العربية، ويحللون المحادثات الهاتفية والإلكترونية ودراسة المواقع الإلكترونية التي تصفحها وطبيعة نشاطه اليومي، مثل كم ساعة يقضي في العمل؟ ومتى يعود للمنزل؟ وهل يذهب للصلاة أو إلى المقهى؟ وهل يشارك مثلاً في احتجاجات أو فعاليات سياسية.
وضمن عملية رسم البروفايل يتم تحليل ترددات الهاتف المحمول للهدف، ومقارنتها بمنظومة تحديد المواقع GPS، وبالتالي تحديد نمط حياته، وطبيعة علاقاته بأسرته وأصدقائه، والمشاكل التي يعاني منها واهتماماته، وطريقة تفكيره وسلّم أولوياته.
ومن أجل تكوين صورة دقيقة عن شخصية الهدف، يشير عاموس إلى أن "وحدة 8200" في سياق "رسم ملامح الشخصية"، تعمل على تحليل مكالمات ومحادثات أصدقاء وخصوم وأقارب الشخص المستهدف، التي يرد فيها ذكر اسمه، وذلك لتحديد صورته في عيون الآخرين.
وفيما يتعلق بالبحث عن أشخاص لتجنيدهم كجواسيس، يؤكد أن الاستخبارات الإسرائيلية تدرك عدم وجود شخص مستعد لخيانة بيئته الطبيعية دون إخضاعه للابتزاز أو الإغراء، لذلك فإن الطفرة في استخدام وسائل الاتصال الإلكترونية لدى الفلسطينيين ضاعفت قدرة وحدة 8200، على جمع المعلومات التي تُمكنها من تحديد هؤلاء الأشخاص.