13-أكتوبر-2024
النزوح في مدارس غزة

(Getty) 86% من المدارس والجامعات في قطاع غزة  دُمرت أو تضررت بشكل مباشر، منذ بدء الحرب الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023

في ظل الدمار والخراب، وفي حرب لا تعرف النهاية، تسير آلاف العائلات الغزية على حافة الموت، في بحث مستمر عن ملاذ مؤقت يحميهم من جحيم القصف اليومي والخوف الذي لا يبرحهم، وبينما تواصل الطائرات والمدافع الإسرائيلية هجماتها بلا هوادة، يفر الجميع مثقلون بعبء النزوح، من حيٍّ إلى آخر ومن مدرسةٍ إلى أخرى.

في وقتٍ مضى، كانت هذه المدارس للتعليم والأمل للأجيال الناشئة، أما اليوم، فقد تحولت تلك الفصول الدراسية إلى ملاذات مؤقتة، تُحشر فيها العائلات معًا تحت سقف واحد، ليصبح الصراع من أجل البقاء هو الدرس اليومي الوحيد.

تحولت المدارس في غزة، إلى مراكز إيواء، ومنزل بديلة، عن تلك التي دمرت.. كيف تستمر الحياة اليومية فيها؟

الأطفال الذين كانوا يومًا يحملون حقائبهم المدرسية، يركضون اليوم في نفس الممرات، ولكن دون كتب أو أقلام، وجوههم الصغيرة تعكس مزيجًا من الحيرة والخوف، تبدلت أصوات ضحكاتهم إلى نظرات تائهة تسأل بصمت: متى ينتهي هذا الكابوس؟

لا طلاب، ولا تعليم، فقط حطام الأرواح والمباني المتهالكة، ووفقاً لهيئة إنقاذ الطفولة التابعة للأمم المتحدة، فإن 86% من المدارس والجامعات في قطاع غزة  دُمرت أو تضررت بشكل مباشر، منذ بدء الحرب الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

انعدام الخيارات

تستيقظ آلاء، النازحة في مدرسة شرق مدينة غزة، في كل ليلة على صوت بكاء طفل يتردد في أرجاء الغرفة، كأنه صدى بلا نهاية، أو شخير مسن يعلو وينخفض مع كل نفس ثقيل، أو أنين مريض ينساب عبر الظلام كموجةٍ لا تعرف الهدوء، الضجيج محيط بها، كأنه جدران سجن غير مرئية، تُلغي معها أي إحساس بالخصوصية.

وتوضح آلاء رجب لـ"الترا فلسطين"، أنه حتى مع إنهاكها الشديد بعد يوم طويل من الركض بين متطلبات الأطفال والوقوف في طوابير المياه والطعام، تجد نفسها عاجزة عن سرقة لحظة واحدة من النوم الهانئ، الذي كانت تملكه في بيتها السابق كحقٍّ طبيعي لا يحتاج إلى طلب.

تتحدث عن شعورها بالاختناق، حين لا تستطيع التحكم في تناول وجبة بسيطة خصتها لأبنائها بعيدًا عن أعين الجميع، فلا مكان خاص تجلس فيه كعائلة كاملة، هنا تمارس تفاصيل حياتها بشكل مكشوف.

"في المدرسة، لا يمكنك حتى اختيار الطعام الذي تريده، عليك أن تنتظر ما تقدمه التكية الجماعية؛ لأن من الصعب إشعال النار لكل عائلة على حدا، وإذا أردت فعل ذلك، عليك حجز دور أمام الموقد، لتصنع ما تريده وتحت أنظار المارة"، كما تقول رجب.

ورغم رعب الطائرات وهدير الانفجارات تُجبر آلاء على الخروج من المدرسة بين الحين والآخر، بحثًا عن لحظاتٍ قليلة من الخصوصية مع أطفالها، أو لتلبية احتياجات أساسية بسيطة تظل مستحيلة داخل تلك الجدران التي ضاقت بكل شيء.

حياة بشق الأنفس

أحمد عزام، نازح آخر إلى مدرسة وسط مدينة غزة، يصف كيف أن أصعب الأمور التي يعاني منها هو شح المياه، حيث تُوزع بشق الأنفس، وعليك أن تنتظر دورك لتحصل على حصتك منها. ويقول: "تلك المياه القليلة تُستخدم لكل شيء، من غسل الأواني والملابس إلى الاستحمام، مما يفرض علينا ترشيد استخدامها بعناية وحذر شديدين".

وفي ظل قلة المياه وتلوثها المستمر، تتحول المدارس إلى مستنقعات لانتشار الأمراض المعدية، التي تنتقل بسرعة، في بيئة تعج بالهواء الثقيل المحمّل برائحة العفن والرطوبة، ما يجعل من محاصرة العدوى أو الحدّ منها مهمة ثقيلة في معركة يومية خاسرة.

فيما تشتكي هبة عبد العال، نازحة إلى مدرسة إيواء غرب غزة، من انعدام الخصوصية: "كثير من النساء يعجزن عن خلع حجابهن حتى في لحظات الراحة، خشية الانكشاف أمام الآخرين، نظراً للاكتظاظ الشديد في الغرف والمرافق، ليبقى على رؤوسهنّ طوال الوقت، عدا عن بقائهن في حالة تأهب دائم خشية أن تكون هذه اللحظة الأخيرة قبل الموت، فيمُتن مستورات"، على حد قولها.

وتضيف لـ "الترا فلسطين": "أحيانًا ننتظر ساعات على الدّور لقضاء حاجاتنا وأطفالنا، أو حتى الاستحمام، نحمل زجاجات الماء الصغيرة كما لو كانت كنزًا ثمينًا، ونتنقل بخجل بين الممرات المزدحمة؛ محاولين إخفاء ملابسنا خلف ظهورنا، وإذا أردنا تغييرها داخل الصفّ، نطلب من إحداهنّ أن تغطينا بقطعة قماش، في محاولة يائسة لصنع مساحة من الخصوصية في مكان يفتقر إلى ذلك".

تحولت الحياة اليومية إلى سلسلة من المعارك الصغيرة: غسل الملابس، نشرها على الأسوار الحديدية أو داخل الصفوف، إعادة ارتدائها يومًا بعد يوم لقلتها، وحتى الأشياء البسيطة التي كانت تُنجز بسهولة أصبحت الآن تتطلب جهدًا كبيرًا، كترتيب الأغراض الشخصية في حقائب صغيرة وتصفيفها باستمرار في كل مرة تبحث عن شيء فيها، كما توضح عبد العال.

كل هذه اليوميات تضيف عبئًا نفسيًا كبيرًا على النازحين، الذين يجدون أنفسهم غارقين في ارتباكهم وتوترهم، يُضاف إليها ضرورة تعايشهم المفاجئ واحتكاكهم المستمر مع آخرين من بيئات وظروف وأطباع مختلفة، ما يتسبب في مشاحنات كثيرة تتطلب صبرًا وهدوءًا لتجنبها، في ظل العيش وسط متغيرات جديدة لا تشبه حياتهم السابقة بتاتًا.

المدارس في غزة.jpg

رعبٌ دائم

فيما يلفت محمد أبو كرش، النازح في مدرسة جنوب غزة، أن الخوف أصبح رفيق النازحين الدائم، فكل لحظة تمر مشحونة بترقب الموت القادم من السماء، فالمدارس التي كانت في الماضي وُجهةً للأمان صارت رمزاً لأبشع المذابح. ويتابع: "الطائرات بدون طيار تحلق فوق المدرسة كل ليلة، تُصدر ضجيجًا مرعبًا يطارد الأطفال في نومهم، فيجعل الليالي مليئة بالأرق والخوف، ومع اقتراب الشتاء، يصبح الأمر أسوأ". 

ويضيف أبو كرش لـ "الترا فلسطين": "البرد القارس يتسلل عبر الجدران المهترئة، يمزق أجسادنا المنهكة، الأغطية قليلة، والملابس الدافئة نادرة، نحاول أن نرتدي كل ما نملك، لكن حتى ذلك لا يكفي لصدّ الصقيع في مكان أشبه بالعراء".

وبوجهٍ يملؤه الحزن والتعب يستحضر أبو كرش أصعب المواقف التي يمر فيها الكثيرون، حين يضطر الأطفال أو أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن في حلكة الليل إلى قطع مسافة طويلة من أجل الذهاب للحمام، والقفز فوق أجساد النائمين في الممرات الضيقة".

ويبقى النزوح داخل المدارس الخيار الأقل سوءًا مقارنة بالبقاء في خيمةٍ على رصيف الشارع، وعلى أي حالٍ سيأتيك الموت عبر قصفٍ عشوائيٍ أو مقصود يجعل من بقائك داخل هذه أو تلك، معجزة بحد ذاتها.

لا إحصائية دقيقة لأعداد النازحين في مدارس الإيواء بمدينة غزة، إذ تمتلئ وتفرغ باستمرار مع كل قصفٍ أو اجتياح بري يحيط بها، ما يعكس حالة النزوح المتكررة التي يعيشها السكان.

ورغم القهر الذي يعيشه النازحون الذين أُخرجوا من بيوتهم الدافئة، لا يزالون يتمسكون بالبقاء أحياء؛ أملاً في استعادة حياتهم القديمة، ويعزّ على أحدهم أن يكون رقماً ضمن أعداد النازحين التي تنشرها المؤسسات المعنية، فكل فردٍ منهم له قصة بدأ بروايتها قبل عامٍ من الآن لكنها لم تكتمل بعد، في انتظار أن ينتهي هذا الكابوس، ويرجع كل ذي وطنٍ صغير إلى وطنه.