تميّز الفلسطيني في نضاله على مرِّ العصور بالإبداع، وهذه سمةٌ تحلّى بها دائمًا، كما تُخبرنا صفحات التاريخ -القديم والحديث منه- وما تسميته بالفلست أو البلست أو البلاسجة، أو الفلسطيني، والّتي مصدرها اللغة الكنعانية، إلّا تجسيدًا لشخصيته الرافضة للذل، حيث تعني كلمة "فلست" في الكنعانية مقاتل/ محارب، وعلى ما يبدو أنها تجذيرٌ وتخليدٌ للتميّز، وما إطلاق وصف "فلست" على المحاربين الكنعانيين، في التراث التوراتي والتلمودي، وفي تراث اليونان القديمة، إلّا تذكيرًا بالشجاعة والبطولة اللتان أصبحتا عنوانًا لهذا الشعب، فقد طغتْ تلك الكلمة التي تحوّلت مع الوقت إلى فلسطي أو فلستي، أو فلسطيني، على كلمة كنعاني مع مرور الأيام، وحلّتْ محلها؛ لتصبح فلست وفلسطي وفلسطيني، صفةً لكل الكنعانيين ونسلهم، لا محاربيهم فقط.
كلمة "فلست" في الكنعانية تعني مقاتل، وعلى ما يبدو أنها تجذيرٌ وتخليدٌ للتميّز
وحتّى لا نكون ممجدين لوهمٍ أو صانعيه -كما يحلو القول لبعض الباحثين العرب الجدد في التاريخ القديم- نُشير لبعض المحطّات الفلسطينية في هذا المضمار، ونبدأ بمدينة شاروحين (تل الفارعة) الغزّية الّتي وقفتْ متحديةً ومتصدّية بعزّة وكرامة للحصار المصري الفرعوني مدة ثلاث سنوات، وبقيت طوال وجودها تُمثّل صُداعًا دائمًا لهم، طيلة فترة احتلالهم لفلسطين والمشرق، فقد ظلّت المدينة تُقاتل كما تروي النقوش المصرية من خلف الأسوار، رافضة الخضوع، إلى أن اندثرت.
اقرأ/ي أيضًا: الدحية والدبكة.. عبادة واستسقاء
لاحقًا، في القرن الرابع قبل الميلاد مثّلَ صمود مدينة صور الأسطوري -الّتي يصفُها هيرودت بالفلسطينية في كتابه "التاريخ"، وهذا وصفها في سفر صفنيا في العهد القديم، كجزءٍ من فلسطين الفارسية، وبالتالي اليونانية والرومانية- في وجه الإسكندر الأكبر، وكذلك فعلتْ شقيقتها غزة الّتي قاتلته حتّى النهاية قابلةً الموت على الاستسلام والذل. ووقفت شكيم نابلس أيضًا متصدية لجيش المقدوني، وحاربته رافضةً الاستسلام، وقبلها وقفت مدينة أسدود جنوب الساحل الفلسطيني، التي وصفها هيرودت بالمدينة الّتي تعرضت لأطول حصار في التاريخ البشري، حيث حاصرها الفرعون المصري ناخو سبعة وعشرين عامًا، ولم يستطع هزيمتها. وتأتي مدينة عكا الّتي صمدتْ وهزمتْ نابليون بونابرت (قاهر أوروبا) وجيشه الجرار، وردّته مدحورًا عن أسوارها الخالدة، بعد أن كان قد أخضع مصر. ولدينا قائمة من مدن البطولة والصمود الفلسطيني، الّتي غيرت بصمودها وجه التاريخ.
خضعتْ فلسطين في القرن الماضي للاحتلال البريطاني، الّذي اعتبره الجنرال إدموند ألنبي (1861-1936)عندما احتل القدس -حسب تعبيره-انتهاءً للحروب الصليبية، لكن كما فعلَ الفلسطيني دائمًا، انتفض في وجه الاحتلال بأسلوب جديد عام 1936، وأطلق ثورة تخللها إضرابٌ دام ستة أشهر، ليسُجَّل كأطول إضراب في التاريخ العالمي، كل هذا يُبرهن على قدرة الشعب الفلسطيني، في ابتكار أساليب نضاليةٍ جديدةٍ وخلّاقة.
تعرّضتْ الثورة الفلسطينية المعاصرة، لعديد المحن، ومن بينها هزائم، بينها تلك الهزيمة الّتي سُمّيت بأيلول الأسود، في الأردن عام 1970، ورغم الانكسار الذي أدمى قلوب الفلسطينيين وأنصارهم العرب، عادَ الفلسطيني كطائر الفينيق، تلك الأسطورة التي ابتدعها الأدب الكنعاني؛ ليمجّد فيها سلالته ومنهم محاربيه.
اخترعَ الفلسطيني أسلوب خطف الطائرات، ورغم السمعة السيئة لهذا الشكل من النضال "الإرهابي"، إلّا أنّه مثّلَ رسائل إعلامية ذكّرت العالم بوجوده. وعام 1987، أدخل الشعب الفلسطيني إلى العالم ثورة الحجارة "الانتفاضة"، وجعلها كلمة تضاف إلى قاموس النضال العالمي. وفي عام 2000، مقابل طائرات إف-16الصهيونية، التي كانت تُدمّر البشر والحجر بلا رحمة، حارثةً مُدن الضفّة وقطاع غزة بصواريخها القاتلة، وأمام صمت وتخاذل جيوش أشقائه العرب، حوّل الفلسطيني جسده إلى قنبلة متفجرة، تتناثر شظاياها في وجه قاتليه ومغتصبيه.
لم يتوقف النضال الفلسطيني عند حد، وما العبارات التي وُصِفَ بها قديمًا وحديثًا، إلا جزء يتراكم إثر جزء
لم يتوقف النضال الفلسطيني عند حد، وما العبارات التي وُصِفَ بها قديمًا وحديثًا، إلا جزء يتراكم إثر جزء، لُيشكّل لوحة عز وفخار، تنهلُ منها أجياله الحالية والقادمة، دروسًا تُلهمهُ ابتكار وسائل جديدة، تُضاف إلى السجلّات والمآثر القديمة؛ لتسلط الضوء على بسالة الفلسطيني ورفضه الخضوع للإذلال والاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: "النعامين".. ثروة الكنعانيين ونهر عكا المنسي
وقد عبّرتْ الثورات الفلسطينية المعاصرة، في وجه الاستعمار الصهيوني لفلسطين الذي يُعدُّ أخطر أنواع الاستعمار التي تعرّض لها هذا الشعب، من حيث امتداداته خارج حدود المنطقة المحتلة، لتشمل دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ فالصهاينة ليسوا استعمارًا قوته ذاتية، بل استعمار مُمتد خارجيًا، جذوره وقوته في الحاضنة الأوروبية الأمريكية، ذات الطابع الديني والاستراتيجي، فهم توأم الاستعمار الصليبي بروح ووسائل وعقلية جديدة، وهذا ما أكّد عليه الكاتب والروائي الأمريكي جميس بالدوين (1924-1987)، حيث يُشيرفي إحدى مقالاته،أنّ دولة إسرائيل لم تُخلق من أجل خلاص اليهود، بل لإنقاذ المصالح الغربية. وهو ما أصبح واضحًا -يجب أن أقول أنّه كان دائمًا واضحًا بالنسبة لي.
لقد كان الفلسطينيون يدفعون ثمن السياسة الاستعمارية البريطانية المتمثلة في "فرق تسد"، ولضمير مسيحي مذنب في أوروبا، منذ أكثر من ثلاثين عامًا (لاحظ أن بلدوين يُرجع تاريخ الظلم إلى عام 1948، وليس عام 1967) عن إبداعات ووسائل نضالية مؤثرة.
واليوم ونحنُ في أوائل القرن الواحد والعشرين، ابتكر الشباب الفلسطيني وسيلة إبداعية أخرى، تتجلى في سلاح المقاطعة التي تُعتبر إحدى أنجع الأساليب التي أوجعت كيان الصهاينة "إسرائيل"، فقد خَلقتْ دولة الاحتلال لمواجهة هذا السلاح وزارة الشؤون الاستراتيجية، هدفها مواجهة نشطاء الحركة وأنصارها في كل مكان، وقد تواطأت مع حملة إسرائيل على الحركة، عدد من دول الغرب، أبرزها حتى الآن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، في محاولةٍ للدفاع عن السّردية الإسرائيلية وسياساتها العنصرية؛ إنهم يحاولون تجريد الشعب الفلسطيني من هذا السلاح الخطير الذي لم تواجه من قبل، فهو ينزع شرعيتها، ويُجردها من أهم أدواتها؛ أي المظلومية التاريخية لليهود.
"البرلمان الألماني منع بقانون، تجريم إسرائيل وجرّم حركة مقاطعتها، ومنع التشكيك بحقها في الوجود".
يعلمُ كل متابعٍ وباحث، أن إسرائيل ليست جنوب أفريقيا، إسرائيل أوجدوها لتبقى وتنتصر، وهنا لابدّ أن أذكّر بالصرخة التي أطلقها خوسيه ماريا أثنار، قبل مدة من الزمن، حيث دعا رئيس الوزراء الإسباني الأسبق -في مقال له بصحيفة التايمز البريطانية- الغرب إلى دعم إسرائيل، مُشيرًا إلى أنّ انهيار إسرائيل، يعنى انهيار الغرب.
رئيس الوزراء الأسباني الأسبق أكد في مقال له أن انهيار إسرائيل يعني انهيار الغرب كله
وذكرَ أثنار بأنّ الغضب مما حدث لنشطاء غزة، لا يجب أن يُنسي الغرب أن إسرائيل أفضل حليف لهم، في منطقة الشرق الأوسط المضطربة. وأكّد بأنّ "إسرائيل تُعدُّ خط الدفاع الأول في منطقة مُضطربة، مهددة دائمًا للانزلاق إلى الفوضى، تلك المنطقة التي تلعب دورًا حيويًا لأمن الطاقة، حيث اعتماد الغرب المُفرط على النفط في الشرق الأوسط. وهي المنطقة التي تُشكّل جبهة أساسية في الحرب ضد التطرف، فإذا انهارت إسرائيل، سينهار الغرب كله".
إن جعل حركة مقاطعة إسرائيل ونظامها العنصري، مُرادفًا للاسامية، وهي بالمفهوم الغربي معاداة اليهود، جريمة بحدِّ ذاتها والتي لا يقبلها أي حر أو عاقل في العالم، لأن من العار على ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ومن سُيقلِّدهم في تشريعاتهم هذه، من دول أوروبا أو غيرها، تحميل يهود العالم الذين لا ذنب لهم، وكثير منهم نشطاء يهود تقدميين فنانين وأكاديميين، وطلاب، وطوائف يهودية لا صهيونية، مسؤولية جرائم كيان الصهاينة وأفعاله العنصرية والفاشية، على أوروبا الّتي تشعر بعُقدة الذنب، أن لا تُحمّل نضال الشعب الفلسطيني، أخطاءها وجرائمها بحق اليهود، بل عليها مراجعة جريمتها الكبرى في إنشاء الكيان الغاصب، والتكفير عنها، بمساعدة الشعب الفلسطيني على نيل حقوقه، وذلك لن يتأتى إلّا بالضغط على هذا الكيان، وعزله عالميًا، رسميًا وشعبيًا، دون ذلك، سيبقى أمن أوروبا والعالم مُهددًا، وتبقى الإنسانية موشّحة بالعارِ، لأنها صمتت على جريمة العصر، تشتيت وتقتيل شعب مُسالم، من أجل أساطير دينية وأهداف أمنية عنصرية.
اقرأ/ي أيضًا:
في بيت لحم.. أسماء القرى تروي تاريخًا